اخر الاخبار

لم أزل اتذكر مقولة الدكتور طارق الهاشمي أستاذ مادة الأحزاب السياسية في أواسط الستينات ،  وهو رجل قومي ،  إن تاريخ الشعب العراقي يمكن قراءته من خلال تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ، فشعبنا مثل الشيوعيين ، كل منهما مضطهد وفي كل العهود  ، من قوله هذا فهمت وللوهلة الأولى أن السبب يكمن  في كون الحزب الشيوعي العراقي هو كيان تنظيمي مصغر لشعب جله من العمال والفلاحين وأصحاب الحرف اليدوية والكسبة، ومنذ كتابات حسين الرحال أول شيوعي عراقي ومعه نشاط جماعة الصحافة ونادي التضامن، تبين مدى التطابق بين أمال شعب خرج توا من ظلام الدولة العثمانية وبين حركة حزب ولد عام 1934 وهو يلاحق انضمام آلاف من كادحي وسط العراق وجنوبه ، ولا غرابة في ذلك ، فله عقيدة جامعة تترك جانبا كل المواصفات غير الوطنية وأنها وان لم تكن شرطا للانتماء لكنها تحصيل حاصل الأفكار الماركسية المعبرة عن وحدة المتشابهين في ظروف الفلاحة والانتاج والمنتمين لطبقة يوحدها شظف العيش ويفرقها التمايز الطبقي عن غيرها من الطبقات ، وفي ظل تنظيم سري صارم عند البداية، لأنه تنظيم ولد تحت اسم لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار ، وهي إشارة إلى نواياه السياسية في دفع البلاد نحو التحرر من الاحتلال الأجنبي في العراق، أي الاحتلال البريطاني . وقد تطور نشاطه بعد تحول تلك اللجنة إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ليأخذ له مكانا في ظلها وفي عموم البلاد بعد أن أخذت فئات اجتماعية أخرى تنضم إليه سيما الطلبة أبناء الكادحين والمثقفين العلمانيين الذين خرجوا من تحت الوصاية لبعض العوائل الدينية.

التبكير في المطالبة بالمساواة

ولد الحزب بعد مخاض عسير بسبب سرية النشاط التنظيمي جراء إجراءات السلطات الحاكمة واستخبارات دوائر الجيش البريطاني  ، غير أنه تجاوز كل الصعوبات من أجل نشر مبادئه ومطالباته ( كانت جديدة جدا على السامعين آنذاك) والوصول بها إلى الحكام وإلى الناس ، فقد كتبت صحيفته المشهورة ( كفاح الشعب) في أواخر تموز عام 1935، مقالا جاء في عددها الاول  ، إن الناس فشلوا في جني ثمار انتفاضات الفرات لسبب هام جدا إلا وهو عدم وجود ، حزب طبقي ثوري، على أرض المعركة السياسية، وفي عددها الثالث نشرت صحيفة كفاح الشعب اهداف الحزب ومطالبه بناءً على تحسسه هموم الناس آنذاك وكانت على النحو التالي .

اولا .... طرد المستعمرين.

ثانيا..... توزيع الأراضي على الفلاحين.

ثالثا.... إلغاء كل ديون الأراضي ورهوناتها.

رابعا...مصادرة كل أملاك المستعمرين، من المصارف إلى حقول النفط وأعمال السكك الحديدية وغيرها، ونزعه ملكية العقارات الزراعية الكبيرة.

خامسا ..... تركيز السلطة في أيدي العمال والفلاحين.

سادسا ..... إطلاق الثورة الاجتماعية، بلا تأخير، في كل مجالات الحياة الأخرى، وتحرير الناس من أشكال الخضوع المتنوعة.

أثار هذا البيان حفيظة ياسين الهاشمي رئيس الوزراء آنذاك ، وهو أحد  الجنرالات الذين رافقوا الاحتلال البريطاني للعراق، واوعز سريعا للشرطة السعيدية بمطاردة الشيوعيين واكتشاف مكان صحيفتهم ، مما دفع ، بصحيفة ،كفاح الشعب ، الى أن تشن هجوما عنيفا ضده ، إذ كتبت في عددها الثالث الصادر في الثالث من اب عام 1935 أن رئيس الوزراء يدعو إلى الفضيلة في النهار ويقضي لياليه مع مومس اسمها ماري الصغيرة .انظر حنا بطاطو، الحزب الشيوعي ص 91، وهكذا بدأ الحزب بعد أن اكتمل تنظيمه معاركه مع السلطات الحاكمة ومطالباته المبكرة بإنصاف الفلاحين وإعادة توزيع الاراضي عليهم بعد أن استحوذ الاقطاعيون من الشيوخ وأمراء القبائل على تلك الأراضي بتشجيع من القائد العام للقوات البريطانية في العراق بموجب قانون دعاوى العشائر الذي أصدره في العام 1918، والذي أصبح بموجبه الشيخ قاضيا والسرگال شرطيا، واستنادا لقانون التسجيل العقاري رقم 50 لسنة 1932 التي تم الاعتراف بموجبه رسميا بملكية الشيوخ والجنرالات ورؤساء العوائل النبيلة لتلك الأراضي الأميرية.

إن العقود التسعة من عمر هذا الحزب والمعارك التي خاضها مع كل الحكومات دون استثناء، حتى في ظل حكومة عبد الكريم قاسم حيث كانت الشرطة ولا زالت باقية بهويتها القديمة المنتمية للعهد الملكي، كانت هذه الشرطة وخاصة شرطة الأمن العام تلاحق هذا الحزب وأتباعه، ولنا ايضا في موقف الانضباط العسكري عام 1961 مثلا صارخا على ما ذهبنا إليه، فقد تصدى ذلك الانضباط للمظاهرة السلمية المطالبة بالسلم في كردستان. ولكن برغم كل ما تقدم فقد مر الحزب في مسيرته بتراجعات محسوبة في علم التاريخ الحديث على ميزان الأخطاء، وان بعض تلك الأخطاء كانت وراء تخلفه عن استلام السلطة ، حتى إبان حكم عبد الكريم قاسم الذي لم يكن ممثلا ( كلاسيكيا) للبرجوازية الوطنية كما يرى  الدكتور علي محسن مهدي في كتابه الوثائق التقييمية لمسيرة الحزب الشيوعي العراقي النضالية ص١٣ ، وانه لم يكن قائد حزب برجوازي حاكم ، وان منحدره الطبقي كان برجوازيا صغيرا ، فإن العقلية التي قاد بها سياسة البلد والنهج الذي اختطه لها ، كانا يدلان على أنه كان منذ البداية ممثلا للبرجوازية الوطنية كطبقة من الناحية الموضوعية على الأقل ، ويستطرد يقول إن من أبرز الأخطاء التي تعرض لها حزبنا هي نظرتنا اللاطبقية إلى قاسم في المرحلة الأولى من الثورة ، ووضعه فوق الطبقات والأحزاب ، واعتباره ضمن معسكر الجماهير الكادحة والحركة الثورية وهذه النظرة اللاطبقية جعلتنا نبالغ في تقدير إمكانياته على مواصلة السير بالثورة ونتردد في انتقاد تذبذبه وتردده ، وقد كنت الاحظ كالآخرين أن وطنية قاسم ومعاركه مع شركات النفط لاستحصال حقوق العراق جعلت كل الوطنيين في العموم تغض الطرف عن أخطائه وتبدلاته حتى كانت نهايته ونهاية القوى التقدمية في الثامن من شباط، نتيجة لتطبيق قانون رقم ٨٠ لسنة ١٩٦١ الذي حفز شركات النفط البريطانية ومن ورائها وكالة المخابرات المركزية بعلم من جهاز المخابرات البريطانية للتخطيط لذلك الانقلاب الفاشستي .والكل يعرف مجريات الانقلاب وبيان رقم ١٣ الذي أصدره اللواء رشيد مصلح وقتال قواعد الحزب الشيوعي من أجل البقاء واثبات الوجود على الساحة السياسية في ظل حكم البعث الأول، أما في ظل حكم البعث الثاني بعد انقلاب ١٧ تموز عام ١٩٦٨ ، فإن الحزب ظل يعاني من التقلبات المستمرة للقيادات البعثية واستمرار معاداتها للحزب جراء مواقفه العلنية من عبثية الحروب الداخلية والخارجية ، وأنه كان لزاما على الحزب عدم تصديق نوايا البعث في الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، لأنها كانت شركا من الخطأ الدخول في شباكه، وهكذا ظل الحزب الشيوعي مطاردا طيلة تسعة عقود، ولم يكن ليركن إلى محاكاة الذات حتى يومنا هذا، وان تلك العقود كانت تاريخا حري بالدراسة لأنها تمثل نشاط تنظيم أو حركة حزب كان الأقرب إلى الناس والأبعد عن كل الحكومات.