اخر الاخبار

مرات كثيرة أحزن، أغضب، وأتأمل ما يجري من حولها في الإعلام وفي السياسة وفي البحوث التاريخية الجامعية من عملية ممنهجة تسعى إلى مصادرة ذاكرة الثورة الجزائرية لمصلحة تيار أيديولوجي معين، واحدة من أكبر ثورات العالم في القرن الـ 20، الثورة الحقيقية والوحيدة في العالم العربي على حدّ تعبير الشاعر والمفكر أدونيس، تتعرض قيمها للترحيل الأيديولوجي من قبل بعض أبنائها ومن قبل بعض بقايا الاستعمار على حد سواء.

أفكر في هذه المصادرة الأيديولوجية الخطرة وأنا أحضر العرض الشرفي الأول لفيلم “العربي بن مهيدي” لمخرجه بشير درايس الذي، وأخيراً، أفرجت عنه الرقابة الجزائرية بعد سجال ونقاش داما ثماني سنوات، أكبر بقليل من عمر حرب التحرير الجزائرية نفسها!

والعربي بن مهيدي هو أحد مفجري الثورة الجزائرية وأحد قادتها، وهو من صاغ أرضية مؤتمر “الصومام” وترأسه في الـ20 من آب 1956، وهو الذي شرح فلسفة بيان الأول من تشرين الثاني 1954 الشهير في مقالة له بعنوان “الثورة والاشتراكية”، ويعدّ العربي بن مهيدي من مهندسي معركة مدينة الجزائر (1956-1957)، واعتُقل في إحدى الشقق بالعاصمة ليتم تعذيبه بالصعق الكهربائي وتغطيس الرأس في الماء القذر والحرمان من النوم وحقنه بأدوية الحقيقة وغيرها، وتنتهي جلسات التعذيب الجهنمية بإعدامه، واعترف الجنرال أوسارس (1918-2013) بكل ما لحق بالشهيد العربي بن مهيدي من تعذيب وإعدام من قبل الجيش الاستعماري، وشهد له العدو قبل الصديق بقوة شخصيته وحكمته، وهو الذي كان يسمى “الحكيم”، وقال عنه الجنرال السفاح بيجار (1916-2010) في مذكراته “لو كنت أملك 10 رجال من أمثال العربي بن مهيدي لغزوت العالم”.

جاء فيلم “العربي بن مهيدي” في وقت تحتاج الجزائر كي تقفز إلى الأمام أن تتأمل ماضيها التاريخي الناصع والإنساني الشجاع، أن يلتفت الجزائري اليوم إلى أن تحقيق الاستقلال ليس مسألة بسيطة، وأن بناء الدولة المعاصرة الحداثية ليس أقل جهداً وتضحية من بناء الاستقلال، وأن لا استقلال من دون دولة وطنية قوية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.

يعرض فيلم “العربي بن مهيدي” الخلافات البينة بين قادة الثورة، خلافات في التصورات والمقاربات ليوميات الثورة، لأنهم بشر، فلكل واحد مزاجه الخاص وله رؤيته وتحليلاته، ويعرض أيضاً صراعات ما بين مناضلي الداخل ومناضلي الخارج وهذه سنة الثورة أيضاً.

وفي الفيلم يظهر القائد الشهيد والمجاهد العربي بن مهيدي في صورة إنسان طبيعي يعشق، يمثل في المسرح، يلعب في فريق كرة القدم، يصلي، يبكي، يضحك، إنسان يحب الحياة ويحب الحرية.

إن ثورة التحرير الجزائرية العظيمة مثل سائر الثورات في العالم، قام بها بشر وليسوا ملائكة، فيهم الضعف والشجاعة والخوف والبطولة، فيهم الغضب والحكمة، فيهم بعض من الذاتية وكثير من التضحية، فيهم ما في البشر عبر التاريخ، ثورة صنعها وشارك فيها الجزائري المسلم والمسيحي واليهودي، استشهد فيها لأجل الاستقلال والحرية كل من المسلم والمسيحي واليهودي، الشيوعي والعلماني والمؤمن والليبرالي.

يقول البطل الشهيد العربي بن مهيدي في لقطة من لقطات الفيلم إن “الثورة الجزائرية ليست ثورة دينية”، إنها ثورة من أجل الاستقلال والحرية والعدالة الاجتماعية، إنها مشروع تاريخي وليست مشروعاً دينياً لاهوتياً. وفي هذه المقولة تتجسد فلسفة الثورة الجزائرية القائمة على القيم الإنسانية الكبرى التي يحاول بعضهم اليوم مصادرة ذاكرتها لمصلحة تيار واحد هو التيار الإسلامي. منذ فترة، وبالأساس منذ انطلاق الحراك الشعبي في شباط 2019 الذي أطاح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة (1937-2021)، حاول الإسلاميون التموقع ثانية في المشهد السياسي الجزائري بمحاولة وضع اليد على الحراك، ولكي يمنحوا أنفسهم الشرعية التاريخية، انطلقوا في محاولة مصادرة ذاكرة الثورة الجزائرية وإعطائها صبغة دينية، فظهرت حركة سياسية أطلقت على نفسها اسم “النوفمبرية الباديسية”، من خلالها أرادوا نصب فخ سياسي وتاريخي تتم من خلاله وفيه مصادرة ذاكرة الثورة الجزائرية التي لم تكن دينية مع أن غالبية الذين قاموا بها كانوا من المسلمين المؤمنين. لقد أراد هذا التيار السياسي أن يجير الثورة أيديولوجياً لمصلحته، بتحويلها من ثورة من أجل الاستقلال في ظل تعددية سياسية وعقائدية ولغوية، تُحترم فيها القيم الإنسانية، إلى ثورة دينية.

وحين انتبه كثيرون من المجاهدين الصادقين الذين لا يزالون على قيد الحياة إلى محاولة مصادرة ذاكرة الثورة هذه، استنكر بعضهم، وبوضوح، ربط الثورة الجزائرية بالباديسية (نسبة إلى الشيخ المصلح عبدالحميد بن باديس الذي توفي عام 1940، أي قبل اندلاع الثورة بـ 14 سنة)، ليبينوا أن ثورة نوفمبر 1954 هي من صنيع الطبقة السياسية الوطنية المشكلة، آنذاك، من شباب تكونوا في حزب الشعب بالأساس وفي تيارات سياسية ليبرالية واشتراكية وغيرها، والأيديولوجية “النوفمبرية” بعيدة من الأيدولوجية “الباديسية”، والجمع بينهما، اليوم، سياسياً هو محاولة تصدير فكر الثورة الجزائرية بقيمها الإنسانية إلى جهة “الإسلام السياسي” الجديد.

وعبّر رئيس مجلس الأمة، وهو أحد قادة الثورة، في واحدة من حواراته المتلفزة، عن موقفه المعارض لمثل هذا الاستثمار السياسي في ذاكرة الثورة الجزائرية، واستنكر محاولة ترحيل الثورة بقيمها وفلسفتها إلى جهة سياسية معينة التحقت بالثورة متأخرة ولم تكن وازنة فيها سياسياً ولا عسكرياً.

وقبل تصريح رئيس مجلس الأمة، كان المناضل محمد بوضياف، وهو أحد مفجري الثورة الذي اغتيل في الـ29 من حزيران 1992 بعنابة، وهو رئيس للمجلس الأعلى للدولة، أي رئيس الجمهورية، صرّح، بوضوح، بأن جمعية العلماء المسلمين لم تكن طرفاً مؤثراً في الثورة ولا في تحضير الثورة، وهو المسلم الممارس، وكان في ذلك يعبر عن استنكاره وخوفه من ترحيل الثورة الجزائرية وإعطاء ذاكرتها إلى جهة معينة لم تكن ذات حضور سياسي كبير فيها. لقد تعرضت ذاكرة الثورة الجزائرية للترحيل والتشويه من قبل فرنسا الاستعمارية وبقاياها، منذ انطلاقها وحتى الآن، من خلال ترسانة من الكتابات والأفلام العنصرية التي عملت وتعمل على تشويه قيادتها وزرع الشك في فلسفتها وسلوكها، وهذا أمر طبيعي، فأطراف سياسية عدة في فرنسا لم تستسغ حتى الآن هزيمتها في حرب الجزائر، لكن الأخطر هو مصادرة ذاكرة الثورة من بعض أبنائها الذين يريدون تبرير وجودهم من خلال خيانة فلسفة الثورة وتشويهها ومنحها صيغة واحدة وتجييرها لجهة معينة يراد من خلالها ممارسة غسيل أدمغة الجيل الجديد. لقد جاء فيلم “العربي بن مهيدي” ليعيد النقاش حول ذاكرة الثورة ولكي، ربما، يذكّر ببعض أفكار الثورة الجزائرية كما عاشتها ومارستها في الواقع مجموعة من رموزها وشهدائها وقادتها الحقيقيين، وليبيّن للجيل الجديد الذي تعرض للمسخ من قبل تيار الإسلام السياسي، منذ نهاية السبعينيات وحتى الآن، أن الأجداد والآباء من المجاهدين والمجاهدات قادوا ثورة كبيرة تحمل مشروعاً اجتماعياً وإنسانياً ووطنياً متعدداً، يحترم أهل الديانات الأخرى ويحترم المرأة ويقدرها، من دون التخلي أو المس بدينهم الإسلام الذي ورثوه عن آبائهم بطقوسه الجزائرية المغاربية الأصيلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

“اندبندنت عربية” – 7 آذار 2024

عرض مقالات: