اخر الاخبار

كنت جالسا مع صديق قبل أيام وما بين الأحاديث أحاديث أخرى لابد أن تأخذ طريقها كسجع الكلمات إلى ما هو دائر وحائر وجائر وصابر، لا بل أحيانا لما هو قاهر كما هو الأمر الآن في غزة كفتكٍ بالمصائر. أحاديث عابرة للماضي تلك التي تنحني لها أجسادنا إما تحية، أو إجلالا، أو بحركة يائسة للأكثر بؤسا. ولأكون أكثر وضوحا ولأوجز قليلا عليّ أن ادخل في صلب الموضوع كما يقال.

صديقي الشيوعي الحزبي مناضل منذ صباه في بلده ومقاتلا لسنوات في صفوف المقاومة الفلسطينية ثم (أضاع) عشر سنين من حياته في الجبل.

أضاعها!؟

يا لرداءة تعبيري!

فماذا سيفعل بها إن لم (يضيّعها) بل يحرقها بذاك المجد والسؤدد؟ ذلك شرف لن ننكره، بل سنحميه من أي شبهات. أشبه علياً، وهذا اسمه، وربما سيغتاظ مني لهذا الكشف، فقد تعود ورفاقه على أسماء تموه شخصيتهم وتربك استدلال سهام الغدر إليهم، أشبهه حينما أمازحه بـ (البزن) وهو اسم اللفظ الكردي للسخل/المعز لفتوته وسرعة حركته ورشاقة قفزاته. نجده أحيانا على صخرة مدببة أو على أعلى غصن في شجرة. أما منافعه فهو منتج لأفضل أنواع الألبان ومشتقات الحليب، ولكنه للأسف هو معد للسلخ كما وردنا عن أسماء بنت أبي بكر قولها عن ابنها عبد الله حينما شجعته على مقاتلة جنود الحجاج بعد أن قال: «إن القوم إذا قتلوه ربما مثلوا بجثته بعد قتله»، فردت عليه بعبارتها الأثيرة: «إن الشاة المذبوحة لا يضرها سلخها بعد ذبحها». والحال أنا وإياه وصلنا إلى الذكرى التسعين لتأسيس حزبهم الأغر في 31 آذار وكيف سيحتفل الشيوعيون العراقيون بهذه الذكرى؟

ما بين التأسيس وما بين اليوم عشرات التواريخ لذات المناسبة. أما كيف وصلنا إلى هذا كله فهو لسبب أرويه لكم بإيجاز أيضا. كان ذلك يعود لاحتفالية منظمة الحزب الشيوعي العراقي في كوبنهاكن بيوم الشهيد الشيوعي لهذا العام كتقليد سنوي اعتدنا حضوره بصورة خلفية يشي صلع رؤوسنا فيها إلى أن الأشياء ماضية لمستقرها، كما أن الصورة تخلو تباعا من بعض الأحبة والرفاق نأمل أن تبقى ذكراهم حاضرةً كأريج الشهداء. وكان من بين فقرات الحفل مساهمة فلسطينية، كترميز مؤازرة بصوت فنان وصديق عزيز يشدو بلحن (يمه موايل الهوى يمه ماواويليه) وهو نص تراثي/شعبي كبير أعاد تلحينه كبار الموسيقيين، ولكنني وجدت نفسي داخل الحفل أردد لحنا آخر يختلف عما يشدو به الفنان «نسيم» في الحفل. نعم اسمه نسيم، ما اجملهُ من اسم يذكرنا بتلك الأيام، منها ما يعود للذكرى الأربعين لميلاد الحزب ببغداد عام 1974 وهو اللحن الضائع. يا الله كم كبرت! سنوات مرت كما برق خاطف، تذكرت معها الغناء والأهازيج والرسوم والأمل، لن اشطح لها عذرا، لأن الأمر سيطول بطول السنين وسيضيع مني رابط مقالي عن صديقي علي...

المهم إن صاحب اللحن هو الفنان العراقي الراحل «كمال السيد» فقلت لصاحبي علي صاحب الشأن: إن لحن كمال أجمل بكثير وأكثر تعبيرا من كل الألحان. فقال انه لم يسمع هذا اللحن أو لا يتذكره على أية حال. معه الحق لأن الفواجع أنستنا الغبطة والفرحة وشميم نسيم الغناء. وأيا يكون الآمر فأن المخضرمين أمثالي يتذكروه ويحنون إليه. وهنا عليّ أن انتبه، مرة أخرى، لأن مداخل هذا المقال الموجز قد تشعبت وستشعب أكثر وليس بنيتي إن اكتب مقالا بحلقات عن مآثر أجيال المخضرمين، إنما هناك سؤال واحد حاصرني سببه أن جليسي الشيوعي قال إنهم في حال مراجعة حقيقية لواقع الحزب وأسباب الضعف استدعتهم له نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة.

والسؤل هو: لماذا يجلد الشيوعيون أنفسهم في كل مرة؟ بالطبع المراجعة مهمة لأي فصيل سياسي لكنها سرعان ما تتحول إلى الجلد لدى الشيوعيين العراقيين للأسف. نعم، على مدى ذاكرتي جلدوا انفسهم في زمن فشل الجبهة الوطنية في زمن البعثيين، وجلدوا انفسهم لحد الانقسامات المهجرية لبعض قادتهم، وجلدوا انفسهم في تجربتهم في الأنصار/البشمركة، وجلدوا انفسهم بعد الانهيار المريع للمشروع الاشتراكي وسقوط الاتحاد السوفياتي، بل غيروا النسق التنظيمية جميعها بدعاوى التجديد في مؤتمرهم الخامس، وجلدوا انفسهم، وما زالوا، لقرارهم بقبولهم الدخول في العملية السياسية بعد (التغيير أو الاحتلال)، والآن يجلدون أنفسهم لإخفاقهم في الانتخابات الأخيرة، ولا نعرف صدقا إلى أي مدى سيجلدون انفسهم مستقبلا.

والحال في احتفالية منظمة الحزب في كوبنهاكن كانت مئات من صور الشهداء تتناوب على الشاشة وغيرها مطبوعة كصور أو بقوائم أسماء بملفات ورقية كثيرة، وهذا ليس سبقا بالمرة فهم (حزب الشهداء) كما يحلو لهم وصف حزبهم به، أو على أقل تقدير هو وصف يستسيغوه ويحبوه كمن يعدل من جلسته بعد لحظة إطراء. وهنا سؤال آخر لماذا حزب الشهداء؟ أما عن جلادهم فهو، على سبيل الحصر تماما، حزب سياسي، ذبح العراق أصلا، تعرفوه لجرائمه لم يجلد نفسه عليها ولم يراجع تجربته الإجرامية الذليلة، بل لم يطلق قادته الطلقاء كلمة أسف حتى! استثني بعضهم بشاهدتهم كالراحل هاني الفكيكي في كتابه (أوكار الهزيمة) فيما جاءت بعض الشهادات على يد آخرين لم يكونوا بعثيين أصلا كجواد هاشم وزير التخطيط آنذاك. أما الجسم العام المرحب به بالفضائيات يظهر متبجحا ومبتهجا بماضيه ولما آل إليه الأمر بعد السقوط بمقارنة سافرة شديدة القيح لماضٍ بائس وإجرامي مقيت. الأسماء كثيرة جدا وتسويقها رائج أيضا، والأهم هو الإيغال بجرائمهم وتسويغ أفعالهم، فلم يندى جبينهم بقطرة عرق واحدة خجلى لذلك المآل الذي يصرخ بالإدانة وليس المراجعة أصلا.

أقول لأصحابي الشيوعيين كان مجدكم ظاهرا وافتدائكم لوطنكم باهرا، وأغانيكم قطعة من الجمال وسلوككم ظافرا لكل معاني النبل، وما وصفي لصديقي علي بالبزن البري إلا لفتوة وقوة بأس وصبر وإحقاق وجود، أما شاة أسماء بنت أبي بكر فهي عربون الأم التي تقطّع قلبها غير نادمة لمصير محتوم لابنها الشيوعي الذي يعرف مصيره كأرقى وسام وستشهد له الأرض بالأجمل دوما.

أراك يا صاحبي تحمل في حقيبتك مشروعَ مراجعة، فهل أكثر من مراجعة أنك مازلت واثقا بما تقول وتفعل بزمن ليس لك، وشهادة شعب بأكمله إنك أنت الصادق والفاعل وغير النادم، وأنك ستغني كمال السيد حتى وان بقيت لوحدك، وأنك في تناقص أصلا، فلا يهمك حتى إن كنت وحيدا، لا بأس فـ (الشعراء يتبعهم الغاوون)! وإنك من يضع الملح على الجرح ليبقى مفتوحا كشهادة للتاريخ، وإنك لست حزب الشهداء، بل حزب من رفضوا أن يموتوا بغير ميتة مشرفة سيذكرها الوطن والتاريخ. حزب لا يُذكر تاريخ بلاده من دونه، اختلط نسيجه بألوان ترابه يغذيه الغرين والطين ويدفع نسغه أنين الناس المحرومين. أما الآن فالوقت مجرد مزحة، زمن فاسد، أفسد شعبا يرنو لحاجته وهو معذور لشحة ما يبقيه أبيا عن قهر وقلة حيلة، مطعون في قلبه لكن حبل سرته سليما سيمتد إلى ذات النسغ وذات الطين. فاعرف انه ليس زمنك الآن وما عليك إلا أن تهيئ نفسك لاستقبال القادم واللحظة. لحظة ينفصل فيها الخير عن الشر والادعاء عن العزيمة، لحظة اشراق انتظرناها طويلا فترجع كبيرا كما كنت لسبب:

إنك لست حزبا؛ أنت بلاد لا تقبل بالجلاد. ومشروعك بالمراجعة جسدته كلمتان فحسب:

أنت بلاد!

عرض مقالات: