اخر الاخبار

تحتفظ ذاكرة العراقيين بالكثير من الذكريات العطرة عن تلك الشخصيات ذات المواصفات الإنسانية النادرة ومنهم الأطباء الشيوعيون الذين جسدوا معنى الوفاء والحب وشرف المهنة لأبناء شعبنا، بحيث أصبح الإيثار منهجا لعملهم اليومي، ونكران الذات رسالتهم، فمنهم من استشهد في قصر النهاية ومنهم من استشهد تحت التعذيب وويلاته ومنهم من استشهد في صفوف الأنصار طبيبا ومقاتلا ومنهم من أفلت من أيادي البغي والنذالة والخيانة إلى المنافي البعيدة. (وأبو محمد) الفتى الشيوعي الذي تجاوز التسعين (وعقوده مليئة بالمثل الملهمة والكفاح المضيء من أجل غايات ساميات وحتى أيامنا المثقلات بالجراحات والآلام، المنيرات بالتحدي يسير أمامنا ينير درب المناضلين من أجل الوطن الحر والشعب السعيد).. الطبيب القادم من سوق الشيوخ إحدى القلاع الثائرة ضد الطغاة والاستعمار.. أنسان منطلق من مدينة منسية قابعة على فرع من فروع نهر الفرات متاخمة لجروف المبازل والأهوار التي كانت يوما ما ملاذا آمنا ومصدا لجرذان البعث يوم كانوا يعيثون بالأرض فسادا الذين حولوا العراق وشعبه إلى خراب وعويل ودمار ودماء..  أسهم في بناء حزب أصبح له شأن عظيم فيما بعد مع بقية الأحزاب الوطنية الأخرى.  ولد في قضاء سوق الشيوخ الناصرية وفي تلك القرية الغافية على نهر الفرات الهادئ بعد ان يتفرع شمالها إلى فرعين راسما منظرا جميلا وخلابا، إنه حقا منظر لا يغيب عن الذاكرة أو عصي على النسيان،  يقول عنها (مدينتي سوق الشيوخ المتآخية العريقة المدينة الأسطورية لحضارة سومر التي أنجبت العلماء والأدباء والمثقفين والشعراء والفنانين والسياسيين التي لا يعرف بالضبط متى أنشئت وشيدت فوق هذه التلة التي لو قدر للمنقبين الآثاريين ان يسبروا غورها لدونوا لنا تاريخها بشكل أفضل كما لم يستطع أحد أن يعرف بالضبط لماذا سميت بهذا الاسم الذي يعتز به الجميع).

(الكاتب اللبناني محمد علي الحوماني) عندما زار سوق الشيوخ قال عنها إنها منظر طبيعي رائع لا يمكن نسيانه فالفرات الخالد يحتضنها كما تضم الأم رضيعها إلى صدرها فسحر جمالها الريفي الضارب في أعماق الحضارة السومرية الزاخرة بالثروات جعلها من أجمل وأروع المدن. والحوماني لا يقول شيئا ما لم يكن مؤمن به لآنه مؤرخ واديب وشاعر ورحالة.

(والفرج) رغم اصراره الشيوعي الانتماء وحبه الكبير للنضال والحياة وانشغاله غير المنقطع في ميادين مختلفة إلا أنه مشدود لمدينته وذكرياتها وثقافته الأولى وأيام محنته وشبابه.

أكمل دراسته الابتدائية في سوق الشيوخ ثم الناصرية واعتقل وهو طالب دراسة ثانوية وحكم عليه بسبع سنوات سجن قضاها متنقلا ما بين سجون الموصل والكوت ونقرة السلمان وبعقوبة، وفي سجن الكوت التقى بالرفيق الخالد (فهد) واستلهم منه الدروس النضالية والعبر.. عام 1955 غادر العراق مهاجرا إلى تركيا حتى نيله شهادة الدكتوراه في دراسة الطب العام.. فوجدها تكون أقرب صلة بالإنسان وآلامه التي تكون. عام 1961 عاد إلى العراق بعد ان حصل على شهادة البكالوريوس بالطب من جامعة اسطنبول باعتقاده أن الطبيب هو أقدر الناس على كتابة التاريخ بصدق وأمانة  بكافة فروعه الاجتماعية والاقتصادية ودراسة العادات والتقاليد  الفلكلورية وذلك بحكم عمله ومهنته واتصاله المباشر بعامة الناس سواء كانوا مرضى أم أصحاء، فالمرضى كانوا يأتونه بحكم مرضهم والأصحاء يرتادون مجلسه العامر خارج عيادته ليستأنسوا بالاحاديث الشيقة والحكايات الشعبية وتبادل الآراء والأفكار ومن عامة الناس، عندما يقصدون عيادته طلبا للشفاء فإنهم لاشك يطلعونه على واقعهم المر وحالهم التعيس المزري لأنهم من الطبقة الاجتماعية الكادحة، وباطلاعهم على أحوالهم يكتسب طبيبنا (أبو محمد) خبرة واسعة عن أحوال هذه الطبقة المُنشد اليها، وخلاصة القول إن الطبيب الشيوعي هو ذلك الإنسان المهم الذي يتصف بنكران الذات لدى الجميع والذي يستطيع أن يتعدى حدود مهنته الإنسانية إلى آفاق أوسع من الدراية بأحوال مجتمعه وهو ما قام به. كانت عيادته ومراجعوها من الفقراء والمعوزين الذين لا يجدون لقمة العيش وكان خير نصير لهم يسأل المريض الذي يدخل عيادته عن عمله ودخله، كان عاملا أو فلاحا فقيرا وكان يقوم بمعالجتهم وفحصهم حيث يجري لهم العلاج اللازم مجانا وأصبح مثال الشيوعي في الكرم والانسانية والسخاء أي (عندما تكون شيوعيا / يعني ان تكون إنسانا). بعد سقوط  الطاغية الجبروت والاحتلال التحق بصفوف الحزب الشيوعي في كربلاء، انتخب عضوا في مجلس المحافظة في دورته الانتخابية الاولى ممثلا عن الحزب الشيوعي العراقي ومثله خير تمثيل وكانوا يلقبونه بعراب المجلس، رجل تشرب جسمه بالسياسة والشيوعية لا تبعده عنها تلك الأيام السوداء التي قضاها في الطوابير والسجون، فهو طبيب مجد يمارس مهنته التي أقسم عليها أن لا يبارحها لحظة واحدة أو يغفل طرفة عين عن بنود أشرف عمل ومهنة انسانية فكان صادقا بارا كريما ومع كل هذه الصفات والطيبة الممزوجة بذلك الوجه المتوهج الذي لا يألو جهدا في سبيل إزالة الألم عن كل متوجع مصرا أن يمنحه الشفاء والطمأنينة أمينا على وصية استاذه الكبير أبو قراط أبو الطب.  

ثلاثون عاما هي عقود عمره الوظيفي كطبيب وما رافقها من أحداث سياسية وإدارية جعلت ذكر تسلسل مجرياتها صعبة التدوين والمنال.. عاصر أحداثا سياسية وإدارية كان سابحا مبحرا في امواجها المتلاطمة في تنقلاته الشاقة كي يصل إلى نهاية مبتغاه وإلى نهاية تشفي الغليل وتحقق بعض ما كان يطمح إليه وان يترك بصمات عديدة جميلة في مسيرته الوظيفية والسياسية. 

ان الكتابة عن هذا الانسان الخلوق (أبو محمد) وعن الكثير من الشيوعيين الذين تميزوا بخصائص لا تتوفر عند الآخرين، لتصبح ميسما لهم وعلامة دالة عليهم فالتضحية والإيثار والأمانة والعفة والنزاهة وحب الغير كانت علامات فارقة لهم جعلتهم مثلا أعلى ولا زالوا رغم تغير الحياة وتبدل نمطها، أنهم باقون وسائرون على ذات الطريق  الذي جبلوا عليه مما جعل لهم رصيدا جماهيريا بشهادة الاعداء قبل الاصدقاء، وهذه الصفات النزيهة تعيد له  وللمكان هيبته ومكانته الإنسانية عبر منزلته التاريخية أي التثبت في الحيز، وقد أثرت الامكنة على سلوك ذلك الانسان فخلقت منه عنصرا فاعلا متأثرا ومؤثرا بحيويته وشبابه المتدفق، فالسجن غير الزنزانة والبيت الريفي غير المدني والقرية غير المدينة هكذا يكون التأثير متبادلا نافذا وهكذا تكون المذكرات ذات صلة بكل مكونات الوجود ونافذة لائق الأشياء، الدكتور الذي تميز عن أقرانه بالموضوعية الجادة في صياغة الحدث ودلالاته.

وهو الطالب الشاب اليافع ليكون موعدا في أقسى بقع الارهاب والعنف الذي ولج معترك السياسة دون سابق انذار ويزج بالسجن وهو لم يزل فتيا وتشاء الاقدار و رب ضارة نافعة ان يلتقي بكوكبة من المناضلين الابطال الشرفاء في سجن الكوت  وفي مقدمتهم باني حزب الفقراء والكادحين (يوسف سلمان يوسف فهد)  ومقارعي الاستعمار والامبريالية والاستبداد، ليخرج من هذا الامتحان النضالي العسير الغني بالدروس والعبر، ( والشيوعية عنده شرف لذلك كان ثمن الانتماء اليها باهض ) ليخرج رجلا صلبا ذا بصيرة وحنكة حالما بغد أبهى لوطنه وشعبه  مؤمنا بالمبادئ النبيلة الداعية للخلاص من الفقر والجهل والمرض والمعاناة والتسلط.  

كانت فترة مظلمة حقا التي عاشها الدكتور مع ملايين العراقيين في زمن الحرس اللاقومي 1963 حيث غطت سماء العراق بسمومها وظلاميتها وضاقت الدنيا على رحبها، اذ لم يسلم من شرور القتلة الأوباش إلا ما ندر، واستقبل المستشفى الذي كان يعمل به عشرات بل مئات الإصابات الحرجة من المواطنين من قبل الحرس القومي والمشتبه بهم.

بعد تخرجه كطبيب، جاب ربوع عراقنا الحبيب وجال في مدنه وقصباته وقراه من الناصرية إلى قلعة سكر والرفاعي وناحية الفجر سوق الشيوخ ومحطته الاخير هي كربلاء كأنه السندباد البحري وهو يجوب أرض الرافدين بكل تفاصيلها ويضع في كل محطة بصمة مميزة عن الأخرى ويأسر قلوب زملائه الذين عملوا معه في معترك الطب، وفي تنقلاته وترحاله يبني علاقات اجتماعية نقية واسعة مع شخصيات طبية وصحية وعامة.  كان موضع تقدير واعتزاز وثقة عالية  لكل من التقاه أو عرفه، خلال المهنة ترك الأثر الطيب في نفوس الآخرين، وهذه الشخصية الفذة التي ارتبطت بالنضال الثوري للشيوعيين الابطال، وتعبيرا عن ذلك رفع الشيوعيون شعارهم العتيد (وطن حر وشعب سعيد ) ثابتا للكفاح الذي انغمروا فيه ومازالوا والذي قدموا في غماره من التضحيات العظام جيلا بعد جيل ما يصعب حصره وتصور هوله من قدراتهم الذهنية والفكرية وخبراتهم الحياتية والنضالية ما يتعذر تقدير قيمته وتخمين تأثيره ، كان مكافحا للذود عن الفقراء والمساكين فطوبى لهذه الشخصية الشيوعية النادرة التي ستظل ما دام قلبه ينبض بالحياة  معجونة في ذاكرته المتوهجة لصيقة بها طوقته باستحقاقات من شانها حثه على بذل المزيد من العطاء في خدمة الوطن والمواطن وحب الاخرين ونكران الذات.

ورغم بلوغه التسعين تزامنا مع الذكرى اليوبيلية لميلاد حزب شغيلة اليد والفكر حزب العمال والفلاحين، لايزال ذلك الانسان فتى التسعين يشع حيوية وطيبة وتوهج ... ويعود في هذه الذكرى المميزة العطرة شابا متجددا دائم الفتوة.

(واليوم رفاقك وأصدقاؤك ومحبوك ينادوك من جديد لتظل أيها الفتى الشيوعي التسعيني منارا نهتدي به ونظل نحن تلامذتك المخلصين نرفع عاليا راية الشغيلة والمثقفين التي لا تنتكس (رايتك راية عبد الحميد الفرج).

من القلب نتمنى لك دوام الصحة والسلامة والتجديد والموفقية   

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* لمناسبة بلوغه التسعين تزامنا مع الميلاد اليوبيلي لحزب الشغيلة والفكر، حزب العمال والفلاحين، الحزب الشيوعي العراقي.

عرض مقالات: