اخر الاخبار

نهاية العام ١٩٨١ كانت هناك سيارة تضم مجموعة من الأمن البعثي تتعقب سيارة ركاب متوسطة الحجم، وعند توقف سيارة الركاب في حي الآثوريين في الدورة في بغداد ترجل منها شاب في الخامسة والعشرين من عمره فانقض عليه مجموعة من الأمن البعثي كالضواري واعتقلوه... كان ذلك آخر عهد الشاب بالحرية حيث سيق للمعتقل وليستشهد لاحقا. كان أسمه (خالد يوسف متي) الكادر الشيوعي والقائد الطلابي عضو اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلبة العام حتى أواسط السبعينات من القرن الماضي.

والوجه العلني الممثل للطلبة الشيوعيين في جامعة بغداد وأحد كوادر (مشطم)، المكتب المركزي للطلبة والشباب.. أخيرا ظفر الأمن البعثي بصيدهم الثمين الذي كانوا يطاردونه منذ أكثر من ثلاث سنوات، حيث انتقل خالد للعمل السري منذ بدء الحملة القمعية لنظام صدام ضد الحزب الشيوعي العراقي.

ولد (خالد يوسف متي) في مدينة الموصل/ ناحية القوش وكان ابنا لعائلة كادحة نزحت إلى بغداد طلبا للرزق، فعمل أخوته الكبار في الأفران. أما (خالد) فاستكمل دراسته وتوفر لي التعرف إليه من خلال عملي السري آنذاك في اتحاد الطلبة العام والحزب الشيوعي عام ١٩٧٠ حيث التحق (خالد يوسف متي) بالإعدادية الشرقية واتحادها الطلابي في بغداد/ الكرادة ولم يتجاوز عمره آنذاك السادس عشر، وانضم للحزب الشيوعي وعمره ١٧ عاما، وانغمر كليا في مهام متنوعة في (الحزب الشيوعي العراقي) و(اتحاد الطلبة العام في الجمهورية ألعراقية)... فأصبح مسؤولا عن الثانوية الشرقية ثم عضوا في مكتب ثانويات الرصافة ثم شرع في قيادة ثانويات الكرخ وقطاع الثانويات المهنية حتى أصبح عضوا في اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلبة العام لعموم البلاد. لا يمكن تصور ما استطاع أن ينجزه في طريق النضال من أجل الشيوعية في سنوات عمره القصيرة... وهذه شوارع بغداد عرفت ذاهبا إلى موعد حزبي أو اتحادي أو عائدا من موعد ولا أظن أن شارعا رئيسا في بغداد لم يمر به (خالد).

في نهاية السبعينات وبعد اتساع حملة الرهاب البعثي واعتقال الآلاف كان على عشرات الآلاف من الشيوعيين وأصدقائهم اتخاذ قرارهم لتجنب حملة القمع فاتجه جزءٌ منهم للخارج في حين انتقل جزء آخر الى جبال كردستان. فيما قرر (خالد) الانتقال للعمل السري في بغداد وفي أثناء حملة القمع اعتقلت شقيقة خالد (تماضر يوسف متي) الشابة الشيوعية والطالبة في معهد التكنولوجيا والتي كان لـ(خالد) تأثير كبير عليها، وكانت تلك ضربة معنوية قاسية لـ(خالد) وعائلته.

كان لـ(خالد) خبرة جيدة بإدارة العمل السري وكانت موهبته الأهم في العمل الحزبي تكمن في إدارة التنظيم، وفي قدرته على نظم علاقات واسعة مع جماهير وأعضاء الحزب، فاستطاع البقاء برغم حملة الرهاب القاسي، وساعد على لملمة العديد من الرفاق المنقطعين عن الحزب والعديد منهم من خارج بغداد. وقد تعقدت لاحقا ظروف العمل السري للحزب وبالذات إثر قيام الحرب العراقية الإيرانية ونجاح النظام الدكتاتوري في ضرب المركز الحزبي الذي كان الأهم في إدارة العمل السري للحزب الشيوعي في الداخل بقيادة الشهيدة (عايدة ياسين) لكن ذلك لم يثن (خالد) عن مواصلة عمله السري وتنقل من عمل لآخر ومن بيت لآخر حتى اعتقاله.

نحن من عرفنا (خالد) وتابعنا مصيره لم نتأكد من استشهاده مع شقيقته (تماضر) إلا بعد ٢٠٠٣ وسقوط النظام البعثي حيث نشرت قائمة ضمت اسمه وشقيقته (تماضر) ولا يعرف أحد بالتأكيد هل استشهدا أثناء التعذيب أم نفذ بهما حكم الأعداء فعلا؟ فقد دأب نظام البعث على توثيق الموت أثناء التعذيب أو التصفيات بعنوان (تنظيف السجون) على أنها قرارات إعدام وفقا لمحاكمات زائفة!

كانت (تماضر) تتطلع دائما لـ(خالد) دائما كمثل أعلى لها، فهو أول من قدم لها البيان الشيوعي وشجعها في سعيها وكفاحها من أجل قضية المرأة في حين كان (خالد) ينتظر الكثير من شقيقته الصغرى التي كان يعدها لتكون (روزا لوكسمبورغ) عراقية، فكيف لها أن تشهد منظر استشهاده، وإذا سمحنا لخيالنا أن يذهب بعيدا فالمشهد قاس وظالم بما لا يصدق؛ ففي القائمة أنهما استشهدا بنفس اليوم. حسنا. هل سمح لـ(خالد) أن يعانق شقيقته قبل الاستشهاد! أم سمحوا لـ(تماضر) أن تودع شقيقها؟ وأي قسوة في أن ترى أعز الناس الى قلبك يرحل قبلك دون سبيل للوداع؟!!

كل من عرفهما يعرف مبلغ الخسارة التي خسرتها قضيتنا بفقدانهما، لقد ترك رحيلهما مرارة في قلوب من يحبهما. كان (خالد) مشروع قائد ثوري ذهب قبل الأوان. واعتقلت (تماضر) وهي في العشرين من عمرها فيما اعتقل (خالد) وهو في الخامسة والعشرين.

عرض مقالات: