اخر الاخبار

في مواجهة آلة العنف الدائرة بلا هوادة منذ سنوات، قرر القائمون على “متحف قصر طوكيو” في باريس تحويل صالات عرضه، من حين إلى آخر، إلى فضاء لأصداء الأصوات الملهَمة والبديلة التي ترتفع من داخل سديم الحروب. قرار حميد أثمر معارض مهمة، آخرها انطلق حديثاً بعنوان “تصدّعات”، ويجمع 15 فناناً وفنانة من أجيال وأصول مختلفة (أفغانستان، العراق، إيران، فلسطين، سوريا، لبنان، فرنسا وأوكرانيا)، تسائل أعمالهم تجربة المنفى والتمزق بين هنا وهناك، بين ماضٍ وحاضر. فنانون يستحضرون في ممارساتهم المختلفة، خبرات قديمة وتكنولوجيات معاصرة، أفعالاً متواضعة ومواد فقيرة، ويقترحون سرديات تتقاطع داخلها موضوعات النزوح والسجن والحرب مع تجربتيّ الصمود وإصلاح الذات.

الفنان الفلسطيني مجد عبد الحميد يمارس التطريز بطريقة مبتكرة، مستثمراً الزمن الطويل الذي تتطلبه هذه الممارسة للتأمل وابتكار أعمال تعبر عن حال عالمنا، انطلاقاً من مواد فقيرة يعثر عليها غالباً في مناطق حضرية مدمَّرة. أعمال تعكس بهشاشتها، هشاشة العالم، لكنها تراهن على الجانب الترميمي لفعل التطريز. في المعرض الحالي، يقدم كوكبة من الأعمال الحديثة، منها سلسلة “فضاء آمن” التي يتحكّم بها سؤال طرحه الفنان على المقربين منه: أين تشعر بالأمان؟ وتتألف من تصاميم مطرّزة على قماش لغرف وأروقة وسلالم ومساحات فارغة تحت أثاث، أي لفضاءات حماية جسدية ونفسية من الكوارث المحدقة.

الأفغانية رضا أكبر تستخدم الفن كركيزة للنضال من أجل حقوق المرأة في وطنها. وفي هذا السياق، انطلقت عام 2018 في مشروع “نساء خارقات” الذي يقوم على إنجاز بورتريهات على شكل فساتين لوجوه نسائية مهمة في تاريخ أفغانستان، كبورتريه “ناجية ومدافعة” الذي رصدته لمواطنتها شكيلة زارين التي أُجبِرت على الزواج وهي صغيرة من رجل متقدم في السن، أطلق عليها النار في وجهها حين حاولت الفرار من عنفه اليومي، وتعيش اليوم مشوّهة في كندا حيث تستخدم صوتها لدعم نساء أخريات. بورتريه ــ فستان يستحضر في شكله صورة طائر الفينيق الذي يولد أبداً من رماده. وفي سلسلة لوحاتها الناتئة، “قوة لا نهائية”، تحتفي بحرفة نسج السجاد في وطنها، لكنها تستثمر تقنية الاختطاف في كل منها لتحويل النماذج الهندسية التقليدية المعتمدة في هذه الحرفة، إلى أسلاك شائكة أو قفازات ملاكمة ترمز إلى العنف الممارس ضد المرأة.

الرسامة السورية ــ الفلسطينية بيسان الشريف تطور عملاً فنياً بتقنيات مختلفة (رسم، تجهيز وفيديو)، يرتبط بخصوصية مسيرتها المكونة من قطائع وبدايات متجددة، ويتكئ على سؤال الذاكرة الفردية والجماعية. عمل تركز بحثها فيه على أرض الواقع، انطلاقاً من شهادات أو مواد وثائقية، مسائلة الأشكال والممارسات الفنية نفسها. وضمن هذا البحث، تندرج سلسلة البورتريهات الذاتية التي أنجزتها على ورق بيانو ميكانيكي، وتبدو مثل دفتر يوميات حميم أو مثل خارطة عاطفية. بورتريهات غالباً ما يخضع فيها السمع أو البصر أو الكلام إلى إعاقة، كما لو أن فعل الشهادة هو الأكثر صعوبة، بينما تحضر العيون في بورتريهات أخرى مفتوحة على وسعها، كما لو أن عدم إغفال أيّ من الاضطرابات التي يشهدها العالم، يتسم بأهمية قصوى.

العراقي علي أركادي فرّ من وطنه إلى باريس إثر ريبرتواج مصوّر كشف فيه التنكيل الذي تعرض له الأبرياء على يد أولئك الذين كان من المفترض فيهم حمايتهم من تنكيل تنظيم “داعش”. في كلية الفنون الجميلة، حيث درس الفن في العاصمة الفرنسية، افتُتن بحجارة قديمة مهملة كانت تستخدم في الطباعة الليتوغرافية، فقرر إعادة الحياة إليها باستخدامها في مشروع “طباعة أحادية” . ومن هذا المشروع انبثق عمله “الموصل” الذي نشاهد فيه عائلات تفرّ من الصراع بين القوات العراقية وتنظيم “داعش”. أما تجهيزه “أصداء الذاكرة”، فيشهد على تجارب الحرب في مناطق مختلفة من العالم، مبيّناً فرادة كل منها، وفي الوقت نفسه، شموليتها.

الإيرانية ترداد هامشي غادرت وطنها لممارسة فنها الذي يطبعه موضوع البحث عن ملجأ ومجتمع اختياري. رسومها الصغيرة الحجم، والمستوحاة من حياتها اليومية وحياة أصدقائها في المنفى، هي أشبه بمشاهد مسرحية هزلية تعبرها طاقة متفجّرة، وفيض حيوي، وصراخ بلا كلمات، وتتسم بتلك الصفة التي تربط جميع الهاربين من الضوابط. رسوم طارئة، مثل الرغبة، تروي قصصاً بلا حدود، سرديات انفتاح على العالم والآخر، وتشكّل الأجساد والهويات المتعددة عنصراً متواتراً فيها.

الليبية سارة القنطار غادرت سوريا، حيث نشأت، عام 2015، بسبب الحرب. سلسلتها الفوتوغرافية “نحو النور” مستوحاة من الرحلة التي قادتها، مع شقيقها التوأم، من سوريا إلى فرنسا، وكانت في سن التاسعة عشرة. صور التقطتها بسرعة، ثم أعادت العمل عليها بتقنية الـ “سيانوتايب”، التي تسمح في إنتاج كليشيهات بتدرّجات لونية زرقاء، ضمن هاجس علاجي. ولأنها تمارس فنها كوسيلة للتعبير عن مِحَن المنفى، يتصاعد من صورها شكل من أشكال الكآبة.

رندا مدّاح ولدت في قرية مجدل شمس التي تقع بين الجزء المحتل من الجولان والجزء الذي بقي سورياً، الأمر الذي حرمها من بطاقة الهوية. في رسومها ولوحاتها ومنحوتاتها وفيديوهاتها، تنجز عملاً غايته ترميم الذات والذاكرة، كما في كتابها “أطلال عودة” الذي تتلاصق أوراقه على شكل أكورديون، وتعود فيه إلى ذكرى من عام 2011، حين أقدمت مجموعة من الشبان الفلسطينيين على عبور حقول الألغام لبلوغ فلسطين من سوريا. ومن بين الذين أفلتوا من الألغام، ثمة من وقع ضحية حرس الحدود الإسرائيلي، ومن حظي بضيافة والدة الفنانة.

الفلسطينية مي مراد تعمل منذ سنوات على مشروع “واقع افتراضي”، وهي سلسلة من الأعمال التي تسائل جوهر وجودنا المادي في عالم يتحول أكثر فأكثر، افتراضياً. انطلاقاً من تجربة الاحتباس، ومن وضعها كلاجئة، تسعى الفنانة في هذه السلسلة إلى فهم كيفية مواجهة عزلتها أو ابتعادها عن وطنها الأم. وفي هذا السياق، تتخيّل مشاهد من الحياة اليومية، تعمد إلى تغطيتها بصور رقمية، فاتحة بذلك نوافذ افتراضية على العالم، هي أشبه بزجاجات مرمية في البحر.

الإيرانية أرمينة نكهداري تمارس فنها باقتصاد كبير في الوسائل، مدفوعة بغريزة حيوية شرسة، يشهد عليها استخدامها الفحم والباستيل الزيتي وقلم الرصاص للرسم على سطح اللوحة أو الورقة، ضمن حمّى من الخطوط والألوان تستحضر رقصة مجنونة. رسوم هي أشبه بصراخ غضب أو يأس في وجه الكون، تقطنها شخصيات قوية، دموية، تحضر ناتئة، مفككة وأثيرية، ضمن حركة تصاعدية إلى السماء. ومن خلالها، تجبرنا الفنانة على مساءلة إنسانيتنا والشخوص في جانبنا المظلم. أما معدنية رسومها، فتنقلنا إلى زمن جيولوجي، أبعد من طوارئ الحياة والتاريخ.

الأفغاني هادي رهنورد يمارس الرسم والتجهيز والأداء والتصوير في عمله، ويستعين أيضاً بالزمن كوسيط في حد ذاته، نظراً إلى سعيه لتجسيد أودمج حلقات زمنية، ومن خلالها، تصوير تاريخ وطنه المعاصر كحلقة واحدة عبثية تدور، مكرّرةً نفسها إلى ما لا نهاية. وفي هذا السياق، يلجأ أيضاً إلى جسده كأرشيف وفضاء ذاكرة. أما عمله ككل، فيندرج ضمن تلك الحركة داخل الفن الأفغاني المعاصر التي تسعى إلى تقديم سرديات مضادة للحرب، وتلحّ على سلطة الفن العلاجية والتحويلية، في بلد تخضع جميع الفنون فيه إلى حظر كامل.

اللبنانية مهى يمين تمارس فنها بوسائط متعددة، أبرزها الفيديو والأداء والتجهيز، بينما تغذي بسيرورة إبداعها تأملاً يقع عند تقاطع السياسي والاجتماعي والثقافي والتاريخي، ويذهب من الفردي إلى الشامل. هكذا تجمع الفنانة تجارب وذكريات فردية بغية خلق قصص جماعية منها، بعد إعادة إحيائها، ضمن اهتمام بموضوعي العيش المشترك ونقل الإرث. ومن خلال نهج تشاركي في غالب الأحيان، تعمل على استرجاع عوالم متوارية تعيد إليها فتنتها، عبر التقاط شذرات سردياتها وتحويلها إلى آثار تنقذها من النسيان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“اندبندنت عربية” – 24 آذار 2024

عرض مقالات: