يعتبر انقلاب 8 شباط 1963 والذي أسقط حكومة عبد الكريم قاسم، حدثا تاريخياً مهماً بالنسبة للعراق، كانت له أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية، لازالت قائمة آثارها المؤلمة حتى اليوم، لدرجة إن لا أحد يريد رفع السرية عن الكثير من أحداثه في بريطانيا وأمريكا رغم مرور أكثر من ستين عاماً على وقوعها.
صراعات وتناقضات
لقد كانت للأزمة تداعيات قبل قيام الجمهورية الأولى في 14 تموز1958، فلم يكن تنظيم الضباط الأحرار، الذي أسقط النظام الملكي، ذا أيديولوجية معيّنة واحدة، بل ضّم ضباطاً قوميين وبعثيين وشيوعيين وديمقراطيين، واستبطن صراعاً داخلياً منذ تكوينه، غطت عليه رغبة الجميع في إسقاط النظام الملكي. وبعد انتصار ثورة 14 تموز، ظهرت على الساحة هذه الخلافات بين الضباط والتي انعكست بدورها على علاقة عبد الكريم قاسم بمصر، حيث كان لجمال عبد الناصر مشروع لقيام دولة الوحدة العربية التي رفض عبد الكريم قاسم قيامها بشكل "فوري"، معللاً رفضه بأن لديه شعباً جائعاً عليه أن يشبعه أولاً، ومقترحاً قيام إتحاد فيدرالي بديلاً عن الاندماج الفوري، وكان هذا استنتاج توصل له الحزب الشيوعي العراقي بعد دراسة علمية، تاريخية واقتصادية لواقع الدول العربية.
وعلى الرغم من أن القوى التي كانت تنادي بالوحدة الفورية (القوميون والبعثيون) لم يكونوا جادين في تأييدهم لمشروع ناصر، بدليل أنهم لم يحققوه حين استولوا على السلطة، فقد نقلوا مواقف قاسم إلى عبد الناصر، مما دفع الأخير لإعتباره عدواً للوحدة، ولتشجيعه انقلاباً قام به الشواف ضده في الموصل في آذار 1959 ومحاولة اغتيال تعرض لها في تشرين الأول من نفس العام، وأدت إلى اصابته بجرح عميق ومقتل سائقه.
العامل الخارجي
في عام 1917، احتل البريطانيون ثلاث ولايات عثمانية وهي التي كوَّنت العراق فيما بعد. وعندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، استمرت بريطانيا في السيطرة على المنطقة، وانتدبت في نهاية المطاف لحكم العراق بوصفه إقليماً نشأ نتيجة اتفاقية (سايكس- بيكو عام 1916) والتي رسمت حدود العراق الحالية. وفي عام 1920 حدثت ثورة العشرين في العراق، ومقابل 450 جندي فقدته من قواتها، قتلت بريطانيا 10 آلاف عراقي مستخدمة غاز الخردل (المحرم دولياً) والذي فاجأ الثوار حينها، وتحركت بتعجل لإقامة نظام سياسي على مقاساتها، مستوردة فيصل (الأبن الأكبر للشريف حسين) ومتوّجة إياه ملكاً عل العراق. وفي عام 1922 شرعت بريطانيا في إصدار سلسلة من المعاهدات التي منحت العراق بالتدريج استقلالاً شكلياً في عام 1932، لكنها أعطت لنفسها حق إقامة قواعد عسكرية وحق "الدفاع" عن العراق مع العديد من الامتيازات الأخرى. وخلال فترة الحكم بهذه المعاهدات، استطاعت بريطانيا في عام 1925 أن تأخذ من الملك فيصل امتيازاً نفطياً أمده 75 سنة والذي سمّي فيما بعد "شركة نفط العراق". أما بعد انتصار ثورة 14 تموز وتأسيس الجمهورية الوطنية، قامت الحكومة بانجازات وطنية كبيرة كتأميم الأراضي النفطية العراقية وتحرير الدينار من تبعية الجنية الاسترليني وبيع النفط بالدينار العراقي مما أدى إلى أن يرتفع سعره ويصبح أقوى عملة في المنطقة، والقضاء على طبقة الإقطاع وتحديد مساحة ملكيتهم وتوزيع الأراضي على فقراء الفلاحين والشروع بتأسيس صناعة وطنية، كإنتاج الجرارات الزراعية وتوزيعها على الفلاحين والخروج من حلف بغداد الاستعماري الذي كانت تقوده بريطانيا، ودعم الشعب الفلسطيني ومحاربة الكيان الصهيوني الغاصب.
النفط هو المشكلة
كانت سياسة حكومة 14 تموز بشأن النفط سببا رئيساً وراء السياسة الغربية (بريطانيا - أمريكا) للتخلص منها. وتكمن خلفية الأمر بأن السلطة قد أعلنت في 1961 انها تريد الحصول على أكثر من 50 في المائة من أرباح النفط، وأعلنت ايضاً أن الشركات كانت تثبِّت سعراً يخدم مصالحها بالذات. وفي "قانون رقم 80" الذي صدر في كانون الأول 1961 سعت الحكومة إلى حرمان "شركة نفط العراق "من حوالي 99,5 في المائة من امتيازتها. وشملت الأراضي التي تم انتزاعها حقولاً نفطية ثمينة ذات احتياطي مثبت. كما نشرت في تشرين الأول 1962 مسودة قانون لإنشاء "شركة نفط وطنية عراقية" جديدة، لكن القانون لم يكن قد أصبح نافذاً عندما وقع الانقلاب الدموي في 8 شباط 1963. واعتبر الغرب هذه الانجازات "جرائم" لأنها لا تتماشى مع سياسة الغرب الاستعمارية، وشرع بالعمل لإسقاط حكومة 14 تموز الوطنية.
انقلابات مرتبة
وبعد سقوط نظام البعث في 9 نيسان 2003، أعترف (روجر موريس) الدبلوماسي الأمريكي السابق والعضو بفريق مجلس الأمن القومي الأمريكي في إدارتي الرئيسين السابقين لندن جونسون وريتشارد نيكسون، بأن لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية يداً في إنقلابين حدثا في العراق في أحلك أيام الحرب الباردة 1963 و 1968، وإن الإنقلاب الثاني كان بداية لوضع صدام حسين بقوة في السلطة العام 1979، وإن وكالة المخابرات المركزية ساعدت في تدبير انقلاب دموي في العراق للإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم في عام 1963.
كما اعترف بذلك "جون بيركيز" الخبير الاقتصادي الامريكي في مقابلة متلفزة قال فيها (ربما تتذكرون رئيس العراق عبد الكريم قاسم في بداية الستينيات، قاسم طرح مشروعا متميزا حيث قال إن النفط العراقي يجب أن يكون لفائدة الشعب العراقي، كم هو نبيل!! لكننا لم نرغب بذلك كثيرا وبدأ قاسم بفرض ضرائب على الشركات النفطية وخاصة الشركات البريطانية والأمريكية، وهدد الشركات العالمية الأخرى وأسس مشروع "الشركة النفطية الوطنية" لذلك قررنا أن نُطيح بقاسم). ومما ساهم بارتفاع قلق المخابرات الامريكية "سي آي أي"، تمّكن الحكومة في آذار عام 1959 من إجهاض انقلاب الشواف في الموصل ومساهمة "المقاومة الشعبية العراقية" في ذلك.
إن الولايات المتحدة أصرت قبل إنقلاب 8 شباط على تنفيذ خطة تفصيلية لإزالة الحزب الشيوعي العراقي كقوة مهمة من الحياة السياسية بالعراق، والقيام بالتصفية الجسدية لأعضائه. و زودت هذه الوكالة قادة انقلاب شباط بلائحة اسماء الضباط الوطنيين الشيوعيين واليساريين ليتم تصفيتهم تمهيداً للانقلاب، وجرى ملاحقة حوالي 5 آلاف منهم وقتلهم.
ولعل من أبرز البعثيين الذين فضح هذه العلاقة كان طالب شبيب عضو القيادة القطرية لحزب البعث في العراق حينها حين قال بأن "وسيطنا بإنقلاب 8 شباط 1963 مع السفارة الأمريكية كان صالح مهدي عماش"، وكذلك تصريح وزير الداخلية آنذاك والقيادي في حزب البعث "علي صالح السعدي" الذي صرح لمجلة الطليعة المصرية في منتصف الستينات قائلاً " نحن جئنا إلى السلطة بقطار أمريكي". وتحججت واشنطن هنا أيضاً كما في جرائم أمريكية كثيرة ضد الإنسانية بالخطر الشيوعي في دعمها للإنقلابيين. وكان هناك دعم عربي ومن الجوار الاسلامي، ناصري على وجه الخصوص، وخليجي، كرد فعل على التغييرات الاجتماعية التقدمية والخشية من انعكاساته السلبية على انظمتهم، وتمثل في توفير إمكانيات إعلامية ومالية وعسكرية، ساهمت بشكل كبير في انتصار الانقلابيين. وقد اعترف طالب شبيب هو الآخر فقال بأنهم استلموا 20 ألف جنيه مصري لتمويل وإدامة أنشطة الحزب وأعمال التحضير لعملية الانقلاب. من جهتها وفرت الكويت وبدعم من المخابرات المركزية الأمريكية إذاعة لبث اسماء القادة الشيوعيين ومعلومات عنهم (أكد الملك حسين ذلك في حديثه لمحمد حسنين هيكل في حديث له نشر في الأهرام في 27 ايلول 1963)، وقبل 8 شباط التقى القيادي البعثي (طالب شبيب) بالكويتيين الذين دعموا البعث ماليا مقابل اعتراف البعثيين بالكويت وهو ماحصل فعلا بعد الإنقلاب.