اخر الاخبار

في مثل هذه الايام ونحن نقترب شيئاً فشيئاً من الذكرى التسعين لصدور جريدة "كفاح الشعب" الناطقة باسم الحزب الشيوعي العراقي، وما تلاها من صحف ومنابر إعلامية مهمة، كانت المدافع الأمين عن تطلعات وطموحات أبناء شعبنا العراقي في السير قدماً نحو الحرية والديمقراطية وبناء مجتمع جديد.

نشعر بالفخر والزهو وعلى مدى تسعة عقود بأن هذه الصحف والمجلات كانت منبراً للكلمة الحرة الشريفة والصادقة ونبراساً يضئ الدرب أمام الكادحين والمقهورين من أبناء شعبنا الأبي وعن طريق الدفاع عن حقوقهم وحرياتهم ونشر الوعي من أجل النهوض ومقارعة الظلم والاستغلال والاستبداد.

قبل أيام وأنا اقلب أوراقي وارشيفي عثرت على مادة منشورة في جريدة "طريق الشعب" بتاريخ الثالث من تشرين الثاني عام 1973 بعنوان "I.P.C.  بين جمود النص وجماليات الاخراج" وفيها قراءة نقدية لمسرحية كتبها الفنان معاذ يوسف وأخرجها الرائد المسرحي سعدون العبيدي، وتيمناً بقرار تأميم النفط التاريخي في بلدنا.

لم يمض وقت طويل على ما نشرته وأثر كتابات أخرى شبابية ومتنوعة حتى تم ترشيحي من قبل اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي للعمل في صفحة الشبيبة في جريدة "طريق الشعب" التي كان يشرف عليها (ابو منهل/ شاكر الكحال) وهو من أهالي الحلة وفي أحايين يترجم من الانكليزية إلى العربية ويرفد الجريدة بما تحتاجه من مقالات مترجمة. كان طيب المعشر، دمث الأخلاق، نسعد بلقائه كل أسبوع وننتظر بلهفة مثل هذا اليوم لنلتقي ونفكر سوية ونتشاور فيما تحتاجه صفحة الشبيبة او لنرفدها بما لدينا من كتابات ومساهمات تعبر عن واقع الشبيبة ومعاناتها وطموحاتها وما تتعرض له من ضغوطات قوية.

كنت أنشر ما أكتبه بأسماء مستعارة أذكر منها (بافل وأبو سرور)، والمؤسف ان الكحال كان قد اعتقل عام 1980، ومنذ ذلك الحين فُقِد أثره، ولم يُعرف عنه شيء، إلا بعد زوال الدكتاتورية، حيث كشفت التقارير الأمنية أنه أُعدم عام 1983.

وعلى ما يبدو انه أصبح في عداد المفقودين. وأذكر ايضاً من بين المحررين الصديق الفنان هادي الخزاعي. بقيت أحرص على حضور اجتماعات صفحة الشبيبة والمساهمة في إعدادها رغم نقلي إلى مدينة حصيبة – القائم – على الحدود السورية- العراقية، إثر تقديمي مسرحية بعنوان "تعال معي إلى شيلي" عام 1975 والتي تم منعها ليلة "الجنرال بروفة" في بعقوبة ولصالح مركز شباب القناة وذلك عبر الإجازات الشهرية او العطل الرسمية رغم المسافات الطويلة التي تفصل بين بغداد والقائم، كذلك لن أنسى ابداً ما حدث لي يوم كنا طلاباً في معهد التدريب الاذاعي في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون، فرع السيناريو، وبعد تخرجي من أكاديمية الفنون الجميلة، يوم جاءنا محمد سعيد الصحاف رئيس المؤسسة إلى قاعة التدريس وهو يهدد ويرعد ويزبد قائلاً: لقد عرفنا من هو كاتب المقال.. وسنعاقبه أشد العقاب".

كانت جريدة "طريق الشعب" قد نشرت قبل أيام مقالاً بعنوان "أهكذا تعد الكوادر الفنية في معهد التدريب الاذاعي؟!" لم تكن المقالة مذيلة باسم كاتبها او الكاتبة وفيها انتقاد لما ورد على لسان إحدى التدريسيات في الدورة حول الموقف من انقلاب الشواف في الموصل وملاحظات اخرى يراد منها الارتقاء بالدورة. لم يكن الصحاف يعرف من هو الكاتب، ولو كان يعرف حقاً من هو الكاتب لما توانى من ضربه وركله وصفعه أمام الطلبة، وتشهد ممرات الاذاعة على توجيهه صفعة قوية لأحد المذيعين. هو يجهل من هو الكاتب، ولكنه يحاول ان يستدرج او يستنطق أحدهم ليرد او يبرر او يتلعثم وحينئذ سيتأكد مما جاء من أجله. الكل التزم الصمت وعبرت العاصفة بسلام.

أبلغني في اليوم التالي الدكتور لؤي القاضي انه التقى الصحاف إثر نشر المقالة وكانت شكوكه تحوم حولي وانه اتخذ قراراً بفصلي من المعهد، لكن الدكتور لؤي القاضي وهو العائد من برلين بعد ان أنهى دراسته السينمائية فيها، وهو من دعا لهذه الدورة وكان يحلم بتأسيس سينما عراقية بديلة ووضع برنامجاً طموحاً لهذه الدورة بالتنسيق مع الصحاف، حاول تهدئته وان قرار الفصل سيسيئ إلى سمعة الدورة، فما كان من الصحاف إلا ان يتريث على أمل تنفيذ القرار عند انتهاء الدورة، اي بعد عشرة اشهر، انتهت الدورة وجاءنا الصحاف يحمل بين يديه حزمة من الملفات ومما قاله: (انها متمسكات ضدكم، نحن لن نسمح لغير البعث العمل في الجيش والإعلام.. وهكذا نرى).

تم ابعاد الشيوعيين عن المؤسسات الاعلامية رغم المبالغ السخية التي صرفت على هذه الدورة والتفوق الذي تميز به الطلبة في شتى الاختصاصات السينمائية والاساتذة الكبار الذين تم استقدامهم من مصر ومنهم المخرج توفيق صالح وفؤاد التهامي وإبراهيم الصحن وإبراهيم عبد الجليل وسعد لبيب وكذلك من المانيا ونخبة من الاساتذة العراقيين.

كم هو مؤلم ومرير في ان تضيع الكفاءات والمهارات في بلد تتحكمه الدكتاتورية والاستبداد. كان على المبعدين او المفصولين ان يجدوا لهم مكاناً في وزارات اخرى ربما الفنون ليست من اولوياتها، بل في آخر القائمة.

تتصدع الجبهة الوطنية وتصل إلى طريق مسدود ويضطر الكثير من الشيوعيين والديمقراطيين لمغادرة الوطن هرباً من بطش النظام الدكتاتوري الدموي. أسافر إلى اسطنبول ومنها إلى بلغاريا ومنها إلى اليمن الديمقراطية ومنها إلى كردستان في أواخر عام 1980 لخوض تجربة الكفاح المسلح بعد تشكيل وحدات أنصارية مسلحة للشيوعيين، وتتواصل تحديات الأنصار الشجعان وبطولاتهم من أجل إضعاف النظام الدكتاتوري وإسقاطه. تعاود المنظمات الجماهيرية والمهنية نشاطاتها وإصداراتها ويتم إصدار جريدة "الشبيبة الديمقراطية" من قبل اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي بعد معاودة حضوره وفعالياته ويتم اختيارنا لهيئة تحرير هذه الجريدة: (علي رفيق/ مخرج سينمائي يقيم حالياً في لندن/ محمد عنوز/ عضو مجلس النواب حالياً/ قاسم علي خضر صحفي عراقي مقيم اوكرانيا).

لقد لعبت هذه الجريدة دورها الإيجابي في التذكير بمهام الشبيبة الديمقراطية في تلك الايام عبر مقالات افتتاحية تدعو إلى وحدة الصف وتعرية ممارسات النظام القمعي والمشاركة النشطة والفاعلة في الاحتجاجات الجماهيرية والانتفاضات، فضلا عن الزوايا الاخرى المتنوعة التي تعكس مساهمات الشبيبة، ومن دون أن ننسى دور شهدائنا الأبطال من الشبيبة ونشر صورهم عبر الصفحة الاخيرة.

وخلال سنوات اقامتي في دمشق في تسعينيات القرن الماضي انشر بين الحين والآخر في مجلة الثقافة الجديدة وما زلت احتفظ وباعتزاز هوية الثقافة الجديدة كمحرر. واخيرا وبعد زوال الدكتاتورية وصدور جريدة "طريق الشعب" بصورة علنية في اعقاب نيسان 2003 في بغداد، لم أبخل بما اكتبه ليأخذ طريقه للنشر في رثاء الفنانين الذين ودعونا او الرفاق، واذكر ذات يوم وبمناسبة الذكرى السنوية لتأسيس اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي نشرت صفحة كاملة من تاريخ هذا الاتحاد وأبرز المحطات التي مر بها في جريدة "طريق الشعب".

بطاقة حب واكبار لكل من غرس حرفاً مضيئاً في اعماقنا، وبطاقة حب واكبار لصحيفتنا وإعلامينا ممن أفنوا زهرة شبابهم في الدفاع عن القيم النبيلة والثورية.

المجد والخلود لشهداء الكلمة الحرة والشريفة.

 

عرض مقالات: