فجعت الأوساط السياسية التقدمية صباح الجمعة المصادف 30/ 12/ 2022 برحيل القائد العمالي والأنصاري هادي علي لفتة، المناضل الصلب الذي عرف منذ يفاعته بمقارعته للأنظمة اليمينية والاستبدادية، مستلهماً القيم والمثل الثورية من أجل غد أفضل وضارباً المثل الحي للشيوعي الملتزم والمتفاني في سبيل شعبه ووطنه، ومن هنا ولا غرابة ان يكون محط اعتزاز وتقدير كل من عرفه أو عمل معه.
تمتد معرفتي به إلى قبل نصف قرن من الزمان أو بعد تجميد اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي والمنظمات المهنية الأخرى عام 1975، يوم عملنا سوية في مختصة الدراسات الشبابية التي شكلها الحزب والتي ارتبطت بالمكتب المركزي للطلبة والشبيبة التي كان يقودها آنذاك الرفيق حميد مجيد موسى.
وقد ضمت هذه المختصة كلا من الرفيقة الراحلة نضال وصفي طاهر والرفيق عبد علي ناجي/ معلم من أهالي الحلة/ تم اعتقاله عام 1980 وأعدم عام 1983، وقد انيطت قيادة هذه المختصة إلى الرفيق عدنان الدوري.
كانت مهمة هذه المختصة متابعة ورصد ما يدور في الساحة الشبابية من آراء وأفكار وتوجهات ومستجدات وعرضها على الحزب للاستفادة منها في أديباته وبياناته ولقاءاته وصحافته. كان الرفيق هادي علي لفتة ممثلا عن الشبيبة العمالية يتحدث بلسانها ويتوقف عند أبرز مما تعانيه من إشكالات وصعوبات ويدافع عن مصالحها دون أن ينسى تطلعات الشبيبة العراقية عموماً في الخلاص من كل القيود التي تحد من نشاطها وحيويتها ودورها في بناء مجتمع جديد لا مكان فيه للتسلط والانفراد، تتلمس فيما يقوله الكثير من الحرص والشعور العالي بالمسؤولية، كل ذلك بلباقة وبلاغة وموضوعية وبما يبعث على الاعجاب والتقدير.
اجتماعاتنا شهرية وفي أحايين نعقد اجتماعاً استثنائياً إذا ما تطلب الامر، ثمة حميمية ورغبة لتقديم الأفضل وانطلاقاً من خبرتهم وتجربتهم في إطار اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي. كنت يومها محرراً في صفحة الشبيبة في جريدة “طريق الشعب” وقبلها مسؤولاً لاتحاد الشبيبة في مندلي عام 1969.
وإذ تمر الأيام والاعوام ونقترب من نهاية السبعينات وتزداد الأوضاع سوءاً وتتفاقم حملات الاعتقالات والملاحقات والمداهمات وتصل الجبهة الوطنية إلى طريق مسدود يتوقف عمل المختصة ويضطر الرفيق أبو عادل لمغادرة الوطن إلى بيروت ومنها إلى بلغاريا. وفي هذه المحطة الأخيرة يدخل دورة حزبية لمدة عام ويتسلح بالكثير من الأسس الفكرية والمفاهيم الثورية الضرورية للكادر السياسي المتقدم. يعود من جديد عام 1982 إلى كردستان العراق وينخرط في صفوف الأنصار البواسل الذين حملوا السلاح بوجه أعتى حكومة دكتاتورية في العراق.
نلتقي من جديد في (بشت آشان) ويتم اختياره مستشاراً سياسياً لفوج بشت آشان. اما ملازم هشام فيتم اختياره مسؤولاً عسكرياً. وما زلت اذكر صبيحة الأول من أيار عام 1983 كيف أبلغني الإداري في فصيل الاعلام (أبو جواد) بأن أتهيأ أنا والنصير خليل درويش (أبو روزا) للذهاب إلى منطقة لويجة التي تبعد عن فصيل (بولي) بساعات بعد اندلاع المعارك فيها مع قوات الاتحاد الوطني الكردستاني ولتعزيز دور مقاتلينا الأنصار فيها.
وعلى جناح السرعة سرنا نحث الخطى باتجاه (بولي) وفي الطريق كانت المفاجآت وإذا بنا نلتقي مع الرفيق أبو عادل الذي أخذ على عاتقه زيارة ميدانية إلى (بولي) وربما أبعد منها، فكانت فرصة طيبة لنسترجع بعضاً من ذكرياتنا القديمة في بغداد وننسى المخاطر التي تحيط بنا. بعد ساعة ونصف الساعة سيرا على الأقدام نصل فصيل بولي ويحاول الرفيق أبو عادل الوقوف بنفسه على آخر مستجدات الاحداث التي تتفاعل وتنذر بما لا يحمد عقباه، ولعل انقطاع الاتصال اللاسلكي بين (بولي وبشت آشان ولويجة) أربك الوضع تماماً مما دعاه للعودة إلى (بشت آشان) لإخبار قيادة الحزب بما هو جديد، فكان ان تم أسره من قبل قوات الاتحاد الوطني الكردستاني المهاجمة من عدة محاور (بشت آشان) ويطلق سراحه لاحقاً.
ينسحب الأنصار باتجاه جبل قنديل المحفوف بالمخاطر والذي تغطيه الثلوج طيلة أيام السنة. ثمة معارك بالمدفعية وأخرى بالأسلحة الخفيفة، يتم عبور قنديل بصعوبة بالغة وندخل إحدى القرى الإيرانية ونمضي فيها أكثر من أسبوعين ومرة أخرى نعود إلى منطقة (لولان) داخل الأراضي العراقية للمواجهة والتصدي ووفاء لدماء العشرات من الشهداء التي ما زالت طرية.. كوكبة رائعة قاتلت ببسلة واستشهدت. كان علينا ان نبدأ من تحت الصفر حيث لا مواد غذائية وتضاريس جديدة.
وبهمة الأنصار الابطال وفي المقدمة منهم الرفيق أبو عادل السياسي الذي لم يألو جهداً في إشاعة الأمل والتفاؤل وبث المعنويات العالية من أجل تجاوز الصعوبات والمحن. كنا يوما بعد آخر نؤسس لبناء قاعدة انصارية مهمة تتواصل مع بقية الأنصار في بهدينان وسوران وربوع كردستان بل والداخل ايضاً. كان يدعو الجميع ان يكونوا بمستوى المسؤولية ويؤكد أن الهزات التي تصيبنا ينبغي ان تقوينا وتعزز من امكانياتنا ومن هنا كان يلعب دور المثال والقدوة. ولن أنسى كلما حلت الذكرى السنوية لتأسيس الحزب في الحادي والثلاثين من آذار تراه يردد مع الأنصار الشجعان الاغنية الخالدة:
سالم حزبنه ... سالم حزبنه
ما همته الصدمات.. سالم حزبنه
يخسه اليضدنه.. يخسه اليضدنه
وإذ يتولى الرفيق الفقيد كاظم حبيب عضو المكتب السياسي للحزب مسؤولية الاعلام المركزي. اذكر مرة رافقناه انا والرفيق أبو عادل إلى محلية (دراو) التي تبعد أكثر من ساعة سيراً على الاقدام من منطقة لولان، ولغرض القاء محاضرة حول الوضع السياسي وسماع ملاحظات ومقترحات الأنصار. كان الهم النقابي العمالي يأخذ حيزاً من وقته في ربوع كردستان وفي لولان، فها هي الحركة النقابية العمالية، تصدر البيانات والنداءات ويخيل اليّ انها بدفع وتشجيع منه وبالتنسيق مع الرفيق باقر شناوة الفضلي (أبو سلوان) وكذلك الرفيق النصير عبد الرحمن الخالدي (أبو أيار) هذا ان لم يكن هو من يكتب المسودات الأولية لها وتجري التعديلات من قبلهم.
وأنا أبحث بين الثلوج في منطقة لولان عن مكان يأوينا عثرت على شجرة صغيرة الحجم تتوسط الثلوج، ظهر بعض من أغصانها وحينما حشرت نفسي قريبا منها وإذا بي اكتشف ثماني بيضات، على ما يبدو أن إحدى الدجاجات كانت تختار هذه الفسحة لتضع فيها بيضها. حملت البيضات الثماني معي وكأنني عثرت على كنز ثمين ورحت ازف البشرى إلى ابي عادل السياسي والفقيد معن جواد (أبو حاتم) من أهالي الحلة. كانت وجبة دسمة من الطعام للأنصار اثارت الفرح والسرور بعد ان عانى الجميع من شح البيض في هذا الشتاء القارص.
ومن الطرائف التي اتذكرها بعد وصول الرفيق أنور طه واسمه الحركي أيضا أبو عادل من أهالي البصرة، عضو منطقة الفرات الأوسط إلى لولان، هذه الشخصية بمنتهى الظرافة، كان يشيع جوا من البهجة لمن حواليه. ذات يوم وإذ ورد اسم أبو عادل السياسي أمامه فما كان منه ان علق ساخراً: هو أبو عادل السياسي لعد آني شنو أبو عادل الكروانجي؟ ويبتسم الجميع لقفشاته وومضاته المملحة. يتم اختيار أبو عادل السياسي عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في المؤتمر الرابع عام 1985، ويكلف بمهام المستشار السياسي في قاعدة بهدينان، حيث العمل الأنصاري في ذروة نشاطه. يتم تكليفه بالنزول إلى الداخل لمتابعة العمل الحزبي وبناء الركائز الحزبية وربط الخيوط المقطوعة، فيتقن التسلل ويجيد العمل السري بمهارة. يعود من جديد إلى كردستان ليضع الرفاق في قيادة الحزب بما انجزه وبما يحمله من انطباعات وملاحظات حول العمل في بغداد والمحافظات الأخرى.
يلقي العديد من المحاضرات في مقرات الأنصار ومنها ماله علاقة بالأوضاع السياسية الراهنة، والكفاح المسلح في كردستان وأهمية إنعاش العمل في الداخل.
توسع العمل الانصاري يرعب السلطة الحاكمة المثقلة بأزماتها وضعف قبضتها على مفاصل الحياة، وفي رد فعل جنوني تلجأ إلى استخدام الأسلحة الكيمياوية في إبادة خصومها. ينعكس ذلك سلباً على العمل الانصاري ونشهد انحساراً ملحوظاً في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي.
نلتقي من جديد في دمشق، وعندما كنت أعمل مترجماً من الفارسية إلى العربية مع الزوار الإيرانيين وبرنامج العمل يتضمن زيارة إلى الجولان – القنيطرة- تلك البقعة الساحرة بجمالها وطبيعتها والتي تعرضت إلى الاحتلال الإسرائيلي فيما مضى اصطحب معي أبو عادل السياسي ذات يوم إلى هناك في سفرة ممتعة ونادرة.
ذات ليلة ومع بعض الرفاق يزور الشاعر الكبير الجواهري ومرة أخرى برفقة الرفيق العزيز جواد كاظم الطائي (علي مالية) وهو نسافر إلى مصيف صافيتا – أحد المصايف السورية الجميلة – وفي طريق العودة ننجو وبصعوبة من حادث سير، والفضل كله يعود إلى حنكة السائق (أبو وسام) ومهارته في الإمساك بمقود السيارة بعد ان ارتفعت قليلا عن الأرض وعلى مقربة من واد سحيق.
بقينا انا وأبو عادل وعلي مالية لفترة غير قصيرة نسترجع هذا الحدث وكيف نجونا بأعجوبة مما جرى. وفي اعقاب التاسع من نيسان 2003 صرنا نلتقي بمقر الحزب الشيوعي العراقي ونتداول بخصوص المرحلة الانتقالية وما هو المطلوب من أبناء شعبنا.
تعود بنا الذاكرة إلى أيام الجبل والتحديات التي مررنا بها اذكره بساعات إزاحة طبقات الثلج من فوق قاعات الأنصار وإلى الجوانب. حتى يخيل لنا اننا ننام في ثلاجة عند قدوم الشتاء لولا تلك الصوبات “الحديدية” وقطع الخشب التي تشتعل وتتوهج وتصهل بداخلها وتبعث من الدفء الكثير.
يتذكر كيف كنت اترجم امامه من التركية إلى العربية مع عناصر من P.K.K بعد اندلاع مناوشات بين أنصارنا وأنصارهم او حصول سوء تفاهم في لولان.
لا تمضي فترة طويلة.. حتى يجمعنا العمل المهني في مختصة “لعم” – لجنة العمل المهني المركزي في الحزب الشيوعي العراقي هو ممثل عن العمال – وانا ممثل عن الفنانين بعد اشغالي موقع نقيب الفنانين العراقيين.
وما أكثر الحوارات والمساهمات التي دارت في هذه المختصة وبما يخص العمل المهني ومحاولات النهوض به.
ولعل الدورة النقابية التي أقيمت في شباط عام 2013 واحدة من ثمار هذه المختصة، حيث تم القاء العديد من المحاضرات عن العمل النقابي ومفهوم النقابة ومبادئ العمل النقابي وتاريخ الحركة العمالية في العراق، والنقابات المستمرة وغير المستمرة ومن هو النقابي؟! ومن قبل رفاق أعضاء في هذه المختصة او من قبل مسؤوليها.
هذا فضلاً عن الكثير من الموسعات وحسب الاختصاصات المهنية، او من باب الاستعداد والتحضيرات لإجراء انتخابات والحصول على مواقع مهمة في هذه النقابة او تلك.
كان للرفيق “أبو عادل السياسي” دوره المميز في هذه المختصة ورفدها بما هو رصين ومتزن وهادف ومتجدد.
كان من دعاة وحدة الحركة النقابية العمالية وتعزيز دورها في انتزاع حقوقها وحرياتها.
في احتفالات الأول من أيار عيد العمال العالمي – من كل عام يتصدر المشهد إلى جانب عمالنا البواسل، سواء في المشاركة في مسيرة راجلة او الادلاء بتصريحات إعلامية هنا وهناك وبما يسلط الضوء على واقع عمالنا واهمية تشريع قوانين جديدة تنصفهم.
يفجع باستشهاد شقيقه الأصغر – عادل الموسوي – المعلم في وزارة التربية والمنسب إلى هيئة النزاهة إثر انفجار عبوة لاصقة بسيارته. يتم تشييعه من وزارة التربية وإلى مثواه الأخير.
في آخر لقاء واياه يدور حديث عن المسرح العراقي يوم كان ملهماً لعمليات التنوير والتغيير والثوير، ويتذكر بإعجاب يوم اقنعت مؤذن القرية في “خاستوي كردستان – ملا هادي للمشاركة في مسرحية من تأليفي واخراجي وبعنوان “الأسوار”.
وكيف كان يبدو متحمساً لتقديم دوره بأفضل صورة وبالتنسيق مع طاقم العمل المسرحي.
واخيراً لابد من القول هو من مواليد ارياف النجف عام 1942 صباح الجمعة 30/12/2022 يخرج من منزله في حي أور لشراء الصمون من الفرن المجاور لبيته. وحينما يتأخر في العودة يقلق اهله عليه، ويرسلون من يتفقده وإذا به يجلس القرفصاء في منتصف الطريق والعرق يتصبب منه، وفي إشارة إلى هبوط السكر عنده ينقل على جناح السرعة إلى احدى المستشفيات في حي البنوگ، يفارق الحياة قبل ان يصل المستشفى.
وبرحيله يعم الحزن والأسى محبيه ومعارفه.
الصبر والسلوان لعائلته ونجله – علاء –
لن نقول وداعاً
فمثله سيظل حاضراً بيننا وماثلاً في ذاكرة أصدقائه ورفاقه.