اخر الاخبار

مازالت حالة الانسداد السياسي في الوضع العراقي مستمرة مع تنمر وتغطرس الطبقة السياسية الحاكمة في تعطيل الجهود المبذولة لتغييره بما يستجيب لمتطلبات تطوير العملية الديمقراطية أو أنهاء ظاهرة الريعية في الاقتصاد الوطني الا ما يتماشى مع واقع المحاصصة المفروضة قسرا وتقاسم المغانم. فعلى سبيل المثال التأخر غير المبرر في إقرار الموازنة السنوية وعدم تقديم حسابات ختامية ومؤخرا محاولة فرض صياغات لآلية انتخاب الحكومات المحلية للحفاظ على مكاسبها الانتخابية غير المشروعة وديمومة سلطتها، وحصيلتها تكريس حالة التبعية السياسية والاقتصادية والمالية للتأثيرات الخارجية كثمن للبقاء في السلطة بينما تواصل المافيات والميليشيات التابعة لها نهب التريليونات من المال العام وتبييضه وارساله خارج العراق والذي اثار انتباها وردود أفعال عالمية.

هذه السياسات عمقت من التفاوت الاجتماعي والطبقي في العراق وتزايد معدلات الفقر والبطالة والاضطهاد والقمع الممنهج والتي تؤكد الاستنتاج السائد من أن العملية السياسية وصلت إلى نهايتها بسبب فشل الأحزاب السياسية في تحقيق أي انجاز يمكن ان يشار له منذ 2003. وهو ما يعني ان إمكانات تحقيق هدف الإصلاح والتغيير الشامل في العراق مازالت ضرورة قائمة بسبب نضج العامل الموضوعي الذي يعكسه تعمق الازمة السياسية والاقتصادية غير القابلة للحل بنفس آليات التوافق والتوازن بين الأحزاب المتصارعة لتقاسم المكاسب. ولكن ما يفتقده الوضع الداخلي كي يحدث التغيير الشامل المنشود هو تطور العامل الذاتي المرتبط بتعاظم وعي الفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير وفي  استعدادها للانخراط في نشاطات جماهيرية ضاغطة من تحت والاستفادة القصوى من إمكانات تحقيق ذلك بالطرق السلمية المتاحة في مواجهة العنف الذي تفرضه القوى السياسية الحاكمة الممثلة للبرجوازية الكمبرادورية والطفيلية المستميتة في  تشبتها بالسلطة وضيق مجالات المناورة لديها إلى الحد الذي أصبحت فيه قضية الإمساك بالسلطة قضية وجودية ومصيرية  لن تتخلى عنها بسهولة وطواعية.

وقد تولد قدر من الشعور بالإحباط وخيبة الأمل في بعض الأوساط المساندة للانتفاضة من حالات الجزر التي شهدتها وهو ما يعكس تعقد الوضع السياسي العراقي وعدم مواكبة لجوهر وديناميكيات العملية الداخلية للانتفاضة من أجل التغيير الشامل كونها لا تتم بخط بياني متصاعد، وان مشاهد المد والجزر فيها هي جزء من واقعها ومساراتها. ولا يعني هذا توقفها بل حصول تراكم كمي لعناصر ومتغيرات سياسية واجتماعية وثقافية وطبقية تسهم في تعديل موازين القوى نوعي لصالح اندلاع وانتصار الانتفاضة التي مازالت تواجه استمرار السلطة في استخدام اشكال متعددة من القمع الممنهج عبر الاغتيالات والقنص والخطف والتهديد والابتزاز والتشهير والاتهامات الكيدية والتي تنفذها الميليشيات المسلحة سواء المتغلغلة في داخل مؤسسات السلطة او خارجها.

السؤال الذي يطرح الان هو: ما العمل لتحقيق مشروع التغيير والإصلاح الشامل في العراق؟ بنظرة شاملة إلى الوضع العراقي الداخلي تأخذ بالحسبان جميع الجوانب الموضوعية والذاتية، نلاحظ واقع استمرارية الاحتجاجات الشعبية ولكن حول قضايا مطلبية محلية يبادر بها المواطنون، والبارز فيها هو استمرار دور الطلبة والشباب والنساء والفئات المهمشة. وتؤشر تجارب الشعوب التي خاضت نضالات وانتفاضات من أجل تحقيق الأهداف الوطنية المشروعة أن التغيير الجذري عبر الانتفاضة هو صيرورة لا يمكن تحديدها بمدد زمنية لارتباطها بتعمق الوعي المجتمعي بضرورة التغيير والاستعداد للمشاركة الفعلية في الاحتجاجات السلمية وتحدي القمع، وأيضا تعمق تعزز الهيمنة الفكرية حول أهمية و دور الفئات المشاركة في التغيير، والثقة بحتمية نجاحها عبر فعاليات  احتجاجية متنوعة ومستمرة و لعدة جبهات في آن واحد من الاعتصامات إلى النشاطات المطلبية والفعاليات الثقافية والمنتديات الفكرية، ترتبط جميعها بشكل جدلي لدفع عملية التغيير إلى الأمام. وخلال جريانها يتعمق الوعي بضرورة التغيير. وتشير التجارب التاريخية للانتفاضات الشعبية في أنها تشهد حالات من الانتعاش والتباطؤ حتى يتحقق تغير في ميزان القوى لصالح قوى الانتفاضة.

ومن التحديات التي تواجه قوى الانتفاضة واللجان التنسيقية بشكل خاص، كونها افرازا من داخلها حاليا مهمة  تطوير صياغات وآليات تنظيمية مناسبة تضمن توحيد الشعارات والاشكال العملية للنشاطات والرؤى، وترفع من مستوى التنسيق بين ما هو مرتبط بها من قوى مجتمعية وافراد، ومنها اليسار العراقي ومؤسسات المجتمع المدني والتيار النقابي، عبر تطوير الحوار الداخلي لإيجاد اشكال مناسبة من آليات القيادة والتواصل، وبخصوصيات التركيبة الاجتماعية المختلفة لقاعدتها ومواجهة التأثيرات الفكرية السلبية التي ترى ان التعامل مع الواقع العراقي هو مجرد صراع مصالح ينتهى بالتوافق المعتمد على المنافع المتبادلة وبالتالي  تجرد الدولة من جوهرها الطبقي وتقلل من شأن الصراع لاجتماعي وتفتقد رؤية مستقبلية بديلة لما تبشر به الليبرالية الجديدة في عالم القرن الحادي والعشرين الذي يزداد فيه تركز الثروة بيد أقلية من البشر واللجوء إلى التدخلات العسكرية وتغيير الحكومات والعودة إلى جولات جديدة من المناورات عبر الترغيب والترهيب والاستخدام السيء للوفرة المالية المؤقتة عبر التلويح بتوظيف الآلاف في مؤسسات الدولة والقطاع العام من أجل الكسب السياسي والحزبي بدلا من استثمارها في تطوير القطاعات الصناعية والزراعية وخلق الملايين من فرص العمل، وأيضا الاستخدام السياسي للمشاعر الدينية والروحية بشكل غير مسبوق والمرتبطة بمحاولات فرض نموذج الدولة الدينية مقابل المفهوم العصري للدولة الذي يفصل بين الدين و الدولة، وبالتالي تحقيق التحرر الإنساني على المستويات السياسية والاقتصادية والروحية، وإيجاد البديل الذي ينسجم مع الواقع العراقي والذي هو تغيير شامل في شكل ونمط وآليات الحكم عبر إقامة نظام ومؤسسات برلمانية فاعلة وعلى أساس نظرة عصرية لإدارة الدولة الفدرالية بعيدا عن المحاصصة والمكونات وسياسات اقتصادية وطنية تشيع واقع العدالة الاجتماعية.

ومن الفروق الجوهرية بين الانتفاضة والثورة هو أن هدف الأولى ليس الاستيلاء على السلطة وتغيير جوهرها الطبقي، وهو ما يحدث في الثورة، بل إحداث حالة من التغير في موازين القوى تدفع بعملية الاصلاح والتغيير الشامل بما يضمن تحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية والثقافية. وهنا تتجلى خصوصية الانتفاضة في انها تتناول قضايا متباينة في فترات مختلفة وليست معركة شاملة واحدة تنهي النظام القديم ليحل الجديد بدله كما حدث مثلا في ثورة أكتوبر في روسيا ،1917 بل هي أشبه بحرب للمتاريس تنتقل من شارع لآخر يتم خلالها تحقيق انتصارات جزئية في مسار تراكمي هدفه استمرارية الدور الفاعل والضاغط لتعديل مسارات الدولة باتجاه تحقيق الأهداف الإنسانية العادلة، والتي تعني، في العراق، الحرية الحقيقية والمساواة والعيش الكريم وكل متطلبات التطبيق الفعلي لمبدأ العدالة الاجتماعية.

عرض مقالات: