اخر الاخبار

تتحقق القوة الساعية للتحول عندما يكمل كل من المقاربتين التاليتين بعضهما البعض: إضفاء الطابع الديمقراطي على الدولة كما هي عند نيكو بولانتزا (ماركسي فرنسي – يوناني) واصلاح  “جذري” من خارج المؤسسات، ومن داخل المجتمع، كما يرى يواخيم هيرش (أستاذ علوم سياسية الماني). يحدث هذا تلقائيا، عند حدوث اضطرابات اجتماعية كبرى: رسخت الحركة العمالية بصمتها في قوانين السلامة والصحة المهنية، وغيرت الحركة النسوية نماذج الأسرة وكذلك لوائح الدولة، وكان للحركة المناهضة للاستبداد في عام 1968 تأثير واسع ومتعدد النتائج.

في الوقت الحالي، لا توجد صحوة اجتماعية يسارية مماثلة. يفرض توازن القوى حدوث صحوة في إطار سياسة جذرية تهدف الى احداث تغيير شامل. والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة هو كيف يمكن تحقيق النجاح بإمكانيات محدودة، وكيف يمكن الجمع بين الأساليب السياسية المختلفة بطريقة فاعلة. يجب أن تهدف سياسة الإصلاح الجذرية إلى إبطاء تدمير الطبيعة، وتأمين ظروف الوجود الاجتماعية، في ضوء الأزمة الكبرى الوشيكة، وتوسيع نطاق العلاقات القائمة على اساس المساواة والتضامن من الأسفل.

على عكس الإصلاح في القرن العشرين، والذي تمت صياغته بشكل أساسي، وفق منظور الطليعة والحكومات، يجب أن تكون هذه السياسة مبنية على المرونة ومستعدة لجر الصراعات الى داخل مؤسسات الدولة. هذا يعني مقدما، نقض فكرة أن الدولة الديمقراطية الليبرالية هي بالفعل سلطة للمنفعة العامة، وتعمل لصالح الجميع، وأن الحكومات اليسارية يمكنها ببساطة إدخال التغييرات المأمولة. إن الإصلاح بروحية بولانتزا، ينصب اهتمامه الرئيسي على وقف تسليع الحياة الاجتماعية وتقليل تأثير الثروات الخاصة الكبيرة، وتحريك مقاومة شرسة.

لهذا السبب بالتحديد، وارتباطا بأن الصراع السياسي الاجتماعي وواقع “الاقتصاد” يتسبب في انخفاض أسعار الأسهم وانفجار أسعار الفائدة على السندات الحكومية (كما هو الحال في اليونان)، مما يؤدي إلى زعزعة استقرار الحكومات اليسارية، ولا يمكن فرض إصلاحات تقدمية إلا بالارتباط مع ضغط سياسي من خارج المؤسسات، مقاومة خارج البرلمان. ان أكثرية مجتمعية تفتح المجال للإصلاحات في الدولة. ولكي تطور الحكومات التقدمية قوة تفاوضية في مواجهة مصالح الملكية، يجب أن تكون هناك ضغوط مجتمعية تجعل التنازلات، بالنسبة لنخب الثروة، شرا لا بد منه.

غالبا ما يسمى الربط بين  ممارسة السياسة الحكومية، والنشاط السياسي خارج المؤسسات على التوالي “حزب” و “حركة”، لكن هذا التصنيف يحجب رؤية ماهية القضية الجوهرية. لا تعتمد سلطة الحركة التحررية المضادة على عدد المرات التي تحدث فيها التظاهرات والاحتجاجات، بل هي مجموعة من الممارسات الاجتماعية وأشكال التنظيم التي لا تقدر بثمن: المواقع الاجتماعية والثقافية، والجمهور الناقد، والسلوك اليومي التضامني، والقناعات الجماعية. والنضالات العمالية وغير ذلك كثير. الأحزاب التي هي غير ممثلة في البرلمان هي جزء من السلطة خارج المؤسسات. لهذا السبب لا يتعلق الأمر بالتضاد، “حزب” في مواجهة “حركة”، بل بتطوير مشروع سياسي متنوع مكرس لأهداف التضامن والمساواة والديمقراطية ويوسع مطالب الحركة الاجتماعية داخل جهاز الدولة.

عند تناول الحركات غير البرلمانية، غالبا ما يتم التظاهر بأنها تنشأ من تلقاء نفسها. هذا ليس خاطئا بالكامل، حيث توجد بالفعل أحداث لا يمكن التنبؤ بها، ومن الأمثلة الحديثة حركة السترات الصفر في فرنسا، التي تشكلت، بين ليلة وضحاها، في تشرين الثاني 2018. وهذا ليس اقل أهمية من تنظيم المشاريع، مثل تلك التي اتبعتها المجموعات القاعدية والنقابات العمالية في الولايات المتحدة الأمريكية وأيضا في ألمانيا لعدد من السنوات.

ترجع أهمية المبادرات ضد ارتفاع كلفة الإيجار في برلين، على سبيل المثال، إلى حد كبير، إلى حقيقة أن سكان المجمعات السكنية المتأثرة بارتفاع الإيجارات، تمت دعوتهم من قبل نشطاء، ومساعدتهم  في تنظيم الاجتماعات. وتم توظيف المفاهيم التنظيمية المعروفة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تم توظيفها من قبل مجموعات لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية لفترة طويلة أيضا.

الفكرة التي تقف خلف هذا النهج هي التوجه للمعنيين، ليأخذوا المسؤولية على عاتقهم. وما يميز ذلك عن النهج الكلاسيكي، ان تأتي الاستراتيجية والتكتيك من الخارج، عبر تشجيع الناس على تطوير مواقفهم المشتركة مع آخرين. ويكون هدف التنظيم، جعل “الرعية”، واعية، وفاعلة جماعيا.

لقد تم استخدام أساليب التنظيم بشكل منهجي، منذ سنوات، في النضالات العمالية. ولسنوات عديدة، كانت الخلافات حول الأجور في معظم البلدان الصناعية تنحصر في سكرتاري النقابات المحترفين، والذين يدعون العمال للأضراب، ويتفاوضون نيابة عنهم. أدى إنهاء الشراكة الاجتماعية من قبل الإدارة إلى تعزيز الوعي بين ممثلي العاملين بضرورة تنظيم سلطة العمل أولاً، وأن المجموعات والحركات القاعدية على وجه الخصوص يجب أن تصوغ أهدافا ملموسة. كانت الحركات الاجتماعية الجديدة في السبعينيات مقتنعة بأن مهمتها كانت تحديد أكبر فرق رمزي ممكن: غالبا ما كانت تتميز بفصل ثقافي ثانوي عن المجتمع السائد. لكن هذا “الاختلاف الجذري” فقد كل الكاريزما. إن تظاهرات الشباب الذين يرتدون ملابس سوداء ليست أقل طقوسا من المسيرات النقابية التقليدية، وكان الفعل النشط منذ فترة طويلة شكلاً من أشكال الحياة الثقافية الثانوية.

لذا فإن المعيار الحاسم ليس جذرية “الاختلاف”، بل القدرة على حشد الناس من أجل أهداف تقوم على التضامن. وهنا مرة أخرى، فإن التجربة التي تستحق النضال، هي أمر بالغ الأهمية. بعبارة أخرى: لا تُقاس الجذرية بالمطالب بعيدة المدى، بل تُقاس بأكبر قدر من النجاحات.

وهذا يعني ضرورة المناقشة الدائمة للقوى والوسائل والأهداف في ترابطها. في العقود الأخيرة، اتسمت الحركات الاحتجاجية في كثير من الأحيان، بإنتاج صورا رمزية، وعلى أساسها أصبحت نشطة في داخل المدن، أو أمام الأماكن التي تمتلك رمزية مهمة، وإذا أريد تحقيق أهداف ملموسة، فسيكون أكثر إثارة للاهتمام العمل حيث يمكن توفير التكاليف المالية، وبناء ضغط سياسي وفقا لذلك.

هناك جانب آخر لمناقشة الإصرار على فرض التحول: تعتمد قوة تأثير حركات التحرر المضادة إلى حد كبير على قدرتها على توقع أهداف التحول. لقد كان لحركات التحرر في بلدان الجنوب تأثير قوي في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. ولا يعود ذلك لممارستها تغييرات ثورية في صفوفها، بل لتنفيذها إصلاح زراعي في بلدانها، وتغيير العلاقات بين الجنسين والنضال دون رتب عسكرية. وهذا هو أساس أسطورة “تشي جيفارا”، وعلى العكس من ذلك، فإن تراجع المنظمات اليسارية بدأ دائما تقريبا عندما تخلت عن مثل هذه الممارسات الجذرية القائمة على المساواة. كتبت المنظرة النسوية يني أدمجاك (باحثة المانية ناقدة للتجربة السوفيتية) أنه من المهم “تصور الثورة التحررية ليس على أنها استيلاء على السلطة، ولكن كعملية تحول، لا ينصب تركيزها على تدمير المجتمع الحاكم، ولكن بناء مجتمع خال من الهيمنة”.

تنشأ قوة التحرر المضادة حيث يتم أيضا ممارسة أهداف المساواة والتضامن “داخليا”. لقد كان هذا هو الحال دائما: يمكن لحزب أو حركة أو نقابة عمالية تنشد مستقبلًا حرا، ولكن تدار بطريقة استبدادية من قبل قيادة مركزية تحقيق نجاحات مؤقتة، لكن سرعان ما تفقد المصداقية.

القوى التحررية المضادة الدائمة توجد، حيث ينعكس التضامن والمساواة والحرية في اشكال السلوك، والأوساط والثقافات التنظيمية. كانت مدن التعدين أماكن للقوة البروليتارية المضادة لأن روح التضامن سادت في شوارعها. لا توجد أشياء قليلة تجسد انهيار جمهورية ألمانيا الديمقراطية بقدر ما تجسده مستوطنة فاندليتس ، حيث عزل كوادر الحزب الاشتراكي الألماني الموحد الحاكم أنفسهم عن مواطنيهم. ولم تكن المشكلة في حجم الامتيازات المادية، التي تمتعوا بها، والتي لم تتجاوز مستوى استهلاك الفئات الوسطى في ألمانيا الغربية، بل كانت المشكلة في العزلة  المتحققة عمليا.

يجب أن تدرك حركة التحرر المضادة للراسمالية دائما أنه لا يمكن أن يكون هناك “حياة صحيحة في الخطأ” وأن الادعاءات يمكن أن تتحول بسرعة إلى نقيضها، أي إلى أخلاقية المحظورات والخضوع للقواعد والمعاقبة على الانتهاكات. إذا أصبحت معايير المساواة والعدالة هي جوهر التعامل السياسي فقط، كما هو الحال غالبا في الحركات الاجتماعية، فإن السياسة التحررية تُستنفد، وهنا أيضا يتطلب الحد الأدنى من العمق الديالكتيكي لا ينبغي لأحد أن يصبح “شخصا جديدا”، ومع ذلك فمن المهم تنمية علاقات يمكن اعتبارها جوهر المشروع اليساري، أي التضامن والاهتمام ببعضنا البعض، وهو ما يمثل مركز القوة الحقيقي لسلطة التحرر المضادة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* اعدت هذه المادة بالاستناد الى نص مختار معدل من كتاب عضو قيادة حزب اليسار الألماني، والباحث راؤول زيلك الموسوم “نحن ليس موتى الرأسمال الاحياء” والمنشورة في جريدة “نيويز دويجلاند” في 8 أيلول 2020.

عرض مقالات: