اخر الاخبار

هناك أسباب مركبة لتدهور حالة النظام الدولي الذي تشكل بعد 1945 وتزايد ضعف دور المنظمات والمؤسسات الدولية التي تكونت بعد الحرب العالمية الثانية كآلية لضمان تطبيق العدالة في التعامل الدولي، والذي كان أحد معابيرها الاحتكام إلى الشرعية الدولية ممثلة بالأمم المتحدة لحل النزاعات بالطرق السلمية واحترام السيادة الوطنية وأدانه تغيير الأنظمة بالقوة من خارجها.

مقابل ذلك ازداد التشدد الأمريكي في تطبيق مفهوم الأمن الوطني واستخدام القوة المفرطة والتدخل العسكري لفض النزاع بديلا عن الطرق الدبلوماسية كتطبيق “مذهب الدومينو” الذي اعتمدته إدارة أيزنهاور خشية من التمدد السوفيتي. وحتى تسعينات القرن الماضي غلب على الوضع العالمي توازن هش بين قوتين عظميين أنداك، الاتحاد السوفيتي الذي انهار بشكل دراماتيكي والولايات المتحدة التي أصبحت الإمبراطورية الأقوى وزادت غطرستها في ظل ما أطلق عليه “القرن الأمريكي”.

في ظل هذه المتغيرات الدولية استيقظت نيويورك يوم 11 أيلول 2001 على جريمة كبري ذهب ضحيتها الآلاف من المواطنين الأبرياء. نفذها تنظيم القاعدة الإرهابي الذي هو أساسا تجمع من الأفغان العرب الذين سلحتهم استخدمتهم الإدارة الامريكية في سياق حرب استنزاف ضد التواجد الروسي في أفغانستان وأعلنت إدارة بوش الابن التي انتخبت حديثا بدء حرب عالمية لمناهضة الإرهاب في أفغانستان. وكانت الإدارة الامريكية مازالت تعاني من تداعيات حروبها في فيتنام وأمريكا اللاتينية والعشرات من الانقلابات العسكرية بعضها ضد أنظمة ديمقراطية منتخبة مثل إيران وتشيلي.

وقد وفرت مجموعة المحافظين الجدد الذين وصلوا إلى مواقع مؤثرة في إدارة القرار السياسي الأمريكي الغطاء الأيديولوجي في سياق منظومة الفكر الليبرالي الجديد وبهدف تغيير هاجس الهزيمة الوطنية نتيجة سلسلة الهزائم العسكرية ومنها التدخل العسكري في أفغانستان. وركزت الآليات والأدوات على استخدام التفوق العسكري والاقتصادي والمالي الأمريكي غير المسبوق وفرض عولمة للثقافة الليبرالية والغطرسة والتنمر في التعامل مع دول العالم الثالث إلى جانب التدخل العسكري والحرب النفسية والإعلامية.

ومازال الغموض يلف قضية متى وكيف اتخذت الإدارة الامريكية قرار غزو العراق حيث نجد روايات مختلفة في مذكرات أقطاب الإدارة الامريكية. إلا أن الصورة الأقرب للصحة كما يبدو هي ما كتبه الصحفي الاستقصائي الأمريكي بوب ودوارد في كتاب “خطة الهجوم” (2004) عن دور الترويكا التي كانت تدفع بشكل مباشر لغزو العراق (جورج بوش ألابن ونائبة ديك تشيني ووزير الدفاع رامسفيلد) تحيط بهم مجموعة من الموظفين والمستشارين المقربين من حلقة المحافظين الجدد، يرافقه تهميش لدور وزير الخارجية كولن بأول ومدير المخابرات المركزية جورج تنينت.

وقد تناولت عشرات الكتب والمذكرات والمئات من الدراسات الرصينة دوافع احتلال العراق خاصة وأن الإدارة الامريكية استخدمت ذرائع مختلفة في مسار الإعداد للاحتلال، وآخرها حجة تحرير الشعب العراقي لاعتبارات أخلاقية وإنسانية. ولكن يعتقد العديد منهم بوجود عوامل متعددة مرتبطة بمراكز القرار ومجاميع الضغط، وخاصة المجمع العسكري الصناعي وشركات الطاقة، حيث التقت جميعها في اتخاذ قرار غزو العراق ككبش فداء لمغادرة موروث عقود من المغامرات العسكرية الفاشلة، وفرصة لاستعراض الجبروت العسكري الأمريكي في العالم الأحادي القطبية الذي مثل العراق فريسته السهلة، حيث يقود السلطة فيها دكتاتور على رأس نظام قمعي شمولي ارتكب المجازر بحق الشعب العراقي عربا واكرادا وأقليات قومية أخرى. وفيه مؤسسة عسكرية منهارة ومتدنية المعنويات نتيجة الحروب العبثية التي استمرت لعقدين والغارات الجوية الامريكية والبريطانية شبه اليومية منذ عام 1991.

أما على الصعيد المجتمعي فقد تدهور الاقتصاد العراقي نتيجة العقوبات الدولية الظالمة التي استمرت لمدة ثلاثة عشر عاما وأدت إلى تصاعد معدلات الفقر والبطالة وتدهور الوضع الصحي للمواطنين. ومن العوامل المساعدة أيضا وجود معارضة سياسية لنظام صدام مسلوبة الإرادة نتيجة الولاءات الإقليمية، وتعيش واقع الصراعات الداخلية ويغلب على سياساتها النهج الطائفي والميكافيلية، والتي أنسحب منها ممثلو التيار الديمقراطي لرفضهم المشاركة في مؤتمر فيينا (1992) ومؤتمر لندن (2002) حيث تحولت المعارضة إلى أداة لتوفير الغطاء السياسي الشكلي للاحتلال وأعطيت دورا هامشيا خلال فترة تسلط بريمر على مقدرات العراق.

وقد امتدت تداعيات فشل احتلال العراق وكذبة ادعاء بناء عراق ديمقراطي مزدهر على النمط الليبرالي إلى داخل أوساط مراكز اتخاذ القرار الأمريكي والبريطاني. ففي بريطانيا على سبيل المثال أشرت لجنة تشيلكوت للتحقيق في قرار حكومة بلير للمشاركة في غزو العراق، والتي تأسست تحت ضغط واستياء شعبي ورسمي بريطاني واسع من غزو العراق وفشل المحتلين في إعادة بناء العراق والفضائح التي رافقت مسيرته، بل تحول العراق إلى ضحية لأكبر نشاط إرهابي عرفه العالم وهو “داعش “. وعلى الرغم من محدودية صلاحيات اللجنة وسرية أغلبية جلساتها وتأخر نشر تقريرها لمدة سبع سنوات في 2016 والذي احتوى استنتاجات خجولة لم تتضمن انتقادا صريحا للسياسيين الذين كانوا في موقع المسؤولية، أصبح من الواضح أن أحد الأهداف الرئيسية من تشكيل اللجنة هو احتواء الضغط الشعبي والسياسي حول الدور البريطاني البارز في احتلال العراق. ومع ذلك فمن الاستنتاجات هو أن غزو العراق في 2003 لم يكن ضروريا واتخذ على أساس معلومات مضللة، بينما تشير الأدلة إلى أن البعض في إدارة بلير دعم الغزو الأمريكي للعراق سرا وأن الجهد الأمريكي البريطاني للحصول على موافقة الأمم المتحدة كان مجرد مسرحية لامتصاص الغضب الشعبي المتصاعد ضد احتلال العراق وأيضا لتسهيل مشاركة رمزية من الدول الأخرى لإقامة تحلف دولي عسكري داعم لاحتلال العراق.

كما وتصاعد الضغط في داخل الأوساط القانونية في أمريكا وبريطانيا وأوروبا والعديد من بلدان العالم المشككة بقانونية غزو العراق. وطالبت بتقديم المسؤولين عنه إلى محكمة العدل الدولية كونه شكل انتهاكاً سافراً لميثاق الأمم المتحدة وللعهود والمواثيق والأعراف الدولية ومبادئ القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، خاصة وان الصين وروسيا وفرنسا ودولا أخرى عارضت القرار داخل مجلس الامن على أساس أن النظام العراقي قد نفذ جميع المطالب والشروط المذلة التي فرضتها الأمم المتحدة.

وقد اعتمدت وجهات النظر المعارضة للاحتلال على ميثاق «حقوق الدول وواجباتها» الذي أقرته الأمم المتحدة في الدورة التاسعة والعشرين بتاريخ 29/12/1974 والذي يشير في المادة الأولى من الفصل الثاني إلى «إن لكل دولة حق السيادة غير القابل للتصرف في اختيار نظامها الاقتصادي، فضلاً عن نظامها السياسي والاجتماعي والثقافي وفقاً لإرادة شعبها دون تدخل أو إكراه أو تهديد خارجي بأي شكل من الأشكال”، وأيضا فشل الإدارة الامريكية والحكومة البريطانية في الحصول على تفويض دولي لشن الحرب. وعليه فان غزو العراق لا يتماشى مع مفاهيم الحق والعدالة والإنصاف، ولا ينسجم مع القيم الأخلاقية والحضارية والإنسانية والقانونية، ويشكل خطراً داهماً على جميع الشعوب والأمم في العالم عندما تحولت الولايات المتحدة إلى شرطي العالم، كما يشجع استخدام القوة الغاشمة ضد الدول الضعيفة أينما ومتى تريد، يهدد الاتفاقات والمواثيق الدولية تنظم العلاقات الدولية وتقوض دور ومكانة الأمم المتحدة.

عرض مقالات: