اخر الاخبار

في أواخر عام ثلاثة وستين، مساء إحدى الليالي الشتوية الباردة الرطبة، يختفي فيها ضوء القمر وسط ظلام حالك، يبعث الكرب في النفس، كنا نترقب وصوله، يطل علينا بشبحه الجميل، ليبدد عنا وحشة الليل كعادته، بعد ايقاده فانوس «اللوكس» بذلك السائل الأزرق ورائحته المميزة «السبيرتو».

كان جدي يصلي على سجادته، عندما وصل متأخراً تلك الليلة، وبعد اشعاله الفانوس، سمعنا ضجة ونباح كلاب عالٍ في النهاية البعيدة للبستان وفي اغلب الاتجاهات. حينها قفز والدي وصرخ بصوت عالٍ «لقد تطوقت» وركض مسرعاً بين أشجار البرتقال الكثيفة وسط البستان المظلم. ثارت عدة اطلاقات من ناحية الشمال ثم انتشر الإطلاق من كل حدب وصوب باتجاه بيتنا، ثم هجم علينا رجال الحرس القومي مثل كلاب مسعورة، سحلوا جدي من سجادة صلاته، واوسعوه ضرباً ولكماً، وأخذوه معهم إلى الخارج، والدماء تسيل من وجهه.

لم يبق سوى النساء، جدتي وأمي واختاي الطفلتان الصغيرتان وأنا بنت الثمانية أعوام. أخذنا نصرخ ونبكي ونلطم الوجوه، مثل بكاء الثكالى والأرامل.

ساد صمت ثقيل بعد الضجيج المرعب الدامي والفوضى في ظلام بارد وموحش، بعد انطفاء الفانوس الذي لا تعرف إحدى النساء إشعاله، عاد جدي منهكاً من الضرب والتعذيب، بعد ساعتين من احتجازه.

طلت بواكير الصباح بعد انقضاء الليل الثقيل، وسط الخوف من القادم، ومصير أبي المجهول وما حدث له، خرجنا جميعاً نبحث عن آثار لمعرفة ما جرى، بحثنا في كل مكان بين أشجار البستان الكبيرة، المزنرة بطوف طيني وبعده أكوام من الحطب لمنع تسلل المجرمين والقتلة، وبالأخص الجانب الموازي لشارع الحسينية العام.

وقعت عيني على بعد مسافة قريبة من بيتنا على فردة حذاء والدي الأيمن، تغطيه الدماء. أخذ جدي يتبع خط الدم مندهشاً ومتألماً إلى أن وصل إلى سور البستان الطيني، حيث وجدنا اثار اقدام أبي مرسومة بالدماء عليه، أثناء محاولته التسلق.

تسلق جدي الجدار على مهل ومشي فوق الحطب، حتى وجد مسدس أبي ملقى وسطه، بعدها عبرنا إلى الدرب، رمقت هناك بقعة وخط دم متعرج منها انتهى على بعد متر، أيقنت ساعتها قد ألقوا القبض على والدي أبو تحرير وأصعدوه بسيارتهم.

بعد مضي عدة أيام من القلق والخوف المضني وصلنا خبر بأن والدي محجوز في السراي «مبنى المحافظة الحالي» وقد تم نقله في الصباح إلى المكتبة المركزية، التي كانت مقر الحرس القومي للتحقيق والتعذيب آنذاك.

خرج والدي بعد أشهر من الانتظار، حكى لنا كيف كانوا يعذبوه بوحشية، حيث يتم إيقاظه بركل قدمه المكسورة والمجبسة، ويعلقوه طوال الليل بالمروحة وينزلوه في الصباح، لكي ينتزعون منه الاعتراف عن التنظيم وبقية الرفاق الذين يجتمعون معه، والمسدس الذين وجدوا غلافه معلقاً في رقبته، لكن دون جدوى. أحيل بعدها إلى المجلس العرفي في الوشاش في بغداد وحكم عليه بالسجن لمدة عام. قضاها في سجن الحلة المركزي.

تحدث لنا كثيراً عن أيام السجن في الحلة المركزي، حيث كان السجن عبارة عن جامعة للنضال، تخرج منها قيادات في الحزب، تلقوا فيها أنواع الدروس والعبّر، من التمارين الرياضية الصباحية، وقراءة الكتب الفلسفية، والتمريض، والتنظيم والانضباط وحياكة النمنم على شكل صور لوحات، وغيرها الكثير.

بقت لنا لوحة تذكارية من صنع يده لأم حاملة طفلتها الرضيعة على يدها وطفلة أخرى تمسك ذيل ثوب الأم وترفع رأسها تسأل أمها « أمي.. أمي.. أين أبي؟»

العار كل العار للرجعية وخونة الوطن واذناب الاستعمار.

المجد والخلود لك يا أبي لما تركته لنا من فخر نعتز به إلى الابد.

المجد لرفاقك الابطال الذين سلكوا طريق العدالة والحرية. طريق الوطن الحر والشعب السعيد.

عرض مقالات: