اخر الاخبار

تناولت مسودة برنامج الحزب المقدمة للمؤتمر الحادي عشر للحزب واقع العراق ومشروع إعادة البناء من جوانب كثيرة تستدعي النقاش أو الإضافات. هذه الملاحظات تحاول التعمق في فقرة مهمة لم تأخذ حقها في التقرير برأيي الشخصي كصديق لهذا الحزب العريق الذي ساهم في صنع جزء مهم من التاريخ الحديث لهذه البلاد. اختصارا للملاحظات لم أضمنها الأرقام والوقائع فتلك الأمور يعرفها ذو الاختصاص.

 تاريخ العراق هو تأريخ مياهه. فالحضارات العراقية المتتالية في العصور القديمة، قبل الطوفان وبعده، قامت على أسس تنظيم المياه والري قبل شوي الطين وتحويله إلى آجر البيوت والمعابد والزقورات. كل الملوك والأباطرة والخلفاء الذين اهتموا بالري خلد التاريخ أسماءهم ووجب شكرهم من البشر والآلهة. الموسوعي احمد سوسة في كتابه “ الري والحضارة “ الذي صدر في أواخر ستينيات القرن الماضي روى تاريخ بلاد ما بين النهرين عبر صيهود وفيضان مياه أنهاره.

العراق، الذي حاضره اليوم أزمات مركبة على بعضها، مهدد بأخطار كثيرة قد يصلحها العطار رغم أنف الدهر. مشكلة المياه والري من أخطر الأزمات التي تهدد مصيره ووجوده كبلاد صالحة للعيش في المستقبل القريب والأبعد. بلاد ما بين النهرين لن يكون لها وجود في العقود القريبة القادمة دون مياه نهريها.

كل التقارير الدولية والمحلية تشير إلى أزمة المياه القادمة في العراق ومنطقة الشرق الأوسط في بلدان لا تمتلك منابع انهارها، في عالم يزداد انانية وقسوة، خصوصا مع دول الجوار التي يدها على منابع أنهارنا. لم تعد المواثيق الدولية ولا المعاهدات المكتوبة ذات أثر مادي أو أخلاقي في موضوع تقاسم المياه. المشكلة في طريقها للتحول إلى كارثة وطنية مع ازدياد السكان وتمدد المدن العشوائي والهدر المائي، سواء الفردي منه أو الجماعي. سلوكيات لا مبالية أنتجها ماض كان العراق فيه يعاني من كثرة الفيضانات والخوف من طغيان انهاره قبل طغيان حكامه.

اليوم، نحن على شفير هاوية إذا أخذنا بنظر الاعتبار الأرقام الحالية والتقديرات المستقبلية لكميات المياه السطحية سواء في الأنهار والبحيرات القليلة ومتغيرات الطقس بما فيها شحة الأمطار وتلوث وفقر المياه ذاتها. لن تغذي منابع النفط أنهارنا ولن تعوض إسالة النفط إسالة الماء. هكذا، فإذا مضت أمور البلاد إلى ما عليه الآن فأن ثلثي سكان العراق سيهاجرون إلى أصقاع أخرى بحثا عن الماء والكلأ في دورة للتاريخ مأساوية بكل معاني الكلمة. يكون العراق أو لا يكون بغض النظر عن المشاريع السياسية والرغبات العاطفية لهذه الزمرة أو تلك. بغض النظر عن سياسة تلك الجارة أو تلك فأن العراق يعيش حصارا مائيا من جارتيه تركيا وإيران، كل حسب مصالحه وشروطه المختلطة ما بين السياسة والاقتصاد.

العراق، وعلى وجه السرعة، وفي سباق مع الزمن، بحاجة إلى خطة خمسية لإنقاذ مياهه.  تنظيم للري بشكل جديد، حداثي، تقني بما يوفر للفرد حصته اليومية وللأرض حصتها الموسمية. لابد من اجراءات تنطلق بعد دراسات جدية بخبرة ذوي الشأن من زراعيين ومهندسين وباحثين وجغرافيين واختصاصي المناخ، والأخذ بنظر الاعتبار خلاصات التقارير الصادرة في السنوات الأخيرة من المنظمات الدولية ذات الاختصاص، لإعادة تنظيم الري بالشكل الذي يوافق الزراعة والمناخ والاستهلاك الفردي للمواطن. لذلك لابد من العمل على مواضيع اهمها:

  1. تنظيم طرق السقي بالطرق الحديثة، المعتمدة على التقليل من هدر المياه، مثل نظام التقطير للمزروعات الموسمية من الخضار وبساتين الفاكهة بكل انواعها بما فيها النخيل. بمرافقة ذلك تيسير برامج تثقيفية للفلاحين والمزارعين على طرق استخدامها فيما يتعلق بالفصول الزراعية الشتوية والصيفية للمساهمة في تقليل الملوحة في الأرض وتجنب تحويلها إلى سباخ. يرافق ذلك الاهتمام بقنوات البزل وتنظيم مجاريها ومصباتها.
  2. تنظيم تغذية السدود بالأنهار الصغيرة الباقية والموسمية منها بشكل يجعل هذه الخزانات ذات فائدة في موسم الجفاف، بما في ذلك انشاء سلسلة من الأنهار الكونكريتية المرفوعة لكي لا تتسرب نسب من المياه إلى الأرض، دون فائدة، كما هو الحال في بلدان كثيرة مثل تونس والمغرب وكوبا.
  3. العمل، تقنيا، على تجميع مياه بعض المناطق ذات السيول خلال موسم الأمطار، في بحيرات صناعية مزودة بشبكة توزيع للمناطق القريبة الأكثر جفافا.
  4. تنظيم زراعة انواع المحاصيل، بقوانين تحددها وزارتي الزراعة والموارد المائية، حسب وفرة المياه وحاجة المحاصيل لها.
  5. تنظيم رعي قطعان المواشي، الأغنام والأبقار والماعز، خصوصا، في المناطق التي يتوفر فيها الكلأ ولو في فصول من السنة تجنبا لإنتاج العلف الحيواني في الأراضي الخصبة التي من الممكن استثمارها لإنتاج محاصيل أخرى.
  6. العراق بلد نفطي، وحيثما يوجد النفط توجد المياه الجوفية. لذلك لابد من خطة تشمل البلاد في المناطق الغربية والجنوبية للاستفادة من هذه المياه المخزونة منذ العصور الجيولوجية. ففي الغرب العراقي وجنوبه انهار تحت الأرض صنعتها الجغرافية بحكم انحدار الارض ما بين شمال البلاد وجنوبها الغربي تكفي للاعتماد عليها زراعيا ولعقود كثيرة. الصحراء العراقية في جنوب البلاد وغربها تجثو فوق بحر من الماء العذب ولم تستغل إلا بما يكفي الحجاج في العصر العباسي. لذلك فأن حفر الآبار في هذه المناطق وتنظيم سلسلة من الجداول المرفوعة يكفي بتحويلها إلى مساحات زراعية خضراء للفاكهة والحبوب كما عملت مصر في الصحراء غرب النيل.
  7. لمكافحة التمدد الصحراوي فلا بد من زراعة المناطق المحاذية للصحراء بموانع خضراء من أشجار قابلة لتحمل شحة الماء والجفاف كأنواع من الزيتون والأثل الصحراوي والألبيزيا وبعض الصنوبريات الصغيرة وانواع من الأشجار الأسترالية الجالبة للماء والرطوبة والتي بالإمكان استخدامها للشرب دون تصفية او تعقيم.
  8. اضافة لكل هذا وللمحافظة على منجزات هذه الخطة لابد من سن “ قانون الإرهاب البيئي”. قانون عقوبات للمحافظة على البيئة ونظافة الريف وكذلك المدينة خصوصا أن البلاد تمر بمرحلة الاستهلاك غير المنظم بما يخلفه من أضرار سواء من قبل الأفراد او المؤسسات الزراعية والصناعية. مياه أنهار العراق لم تعد صالحة للشرب رغم أن العراق ليس في مقدمة الدول الصناعية أو الزراعية عالميا؟ لذلك فأن قلع شجرة، دون مبرر، هو جنحة ينبغي على القضاء معاقبة فاعلها ذلك كمثال ناهيك عن رمي قمامة المدن في الأنهار الصغيرة او الكبيرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب عراقي مقيم في فرنسا

عرض مقالات: