اخر الاخبار

كل شيء يبتديء بالطفولة. الطفولة هي المنبع، والنهر. المصب البحر. المصدر الأول لكل إبداع. لا يمكن لأي كاتب أو فنان التحرر من سطوة عالم الطفولة على أحلامه، ومخيلته، وإبداعه. أستطيع الزعم أن معظم الأعمال الأدبية والفنية العظيمة تنهض على إعادة إكتشاف هذا العالم، وتتكيء على أكتافه. شخصيات الطفولة، أصدقائها، بيوتها، ومحلاتها، ومدنها.

«جغرافيات أسطورية..»

هذا ما فعله ماركيز حين أعاد اكتشاف قرية طفولته شبه المنسية (اركاتاتا) وحولها إلى (ماكوندو)، في أعظم أعماله على الإطلاق (مائة عام من العزلة). في تلك الرواية أعاد ماركيز خلق الأشياء، والأشخاص، بطريقة سحرية فذة، واستطاع أن يرقى بها إلى درجة الخيال المطلق. صنع لها أسطورتها الخاصة، عبر أحداث متخيلة. إصابة السكان بمرض الأرق، أو الأمطار الجنونية التي لا تتوقف، أو نسيان اللغة وتعلم أسماء الأشياء والكائنات من جديد. وهي عملية تعادل في تصوره استعادتها، أي إعادة خلقها في نص سردي جميل. وليس بعيدا عنا جيمس جويس وأسطورة دبلن، في رواية “عوليس”. محمد خضير في “بصرياثا”. إنه اتجاه أو تيار في الأدب العالمي يهتم بخلق جغرافيات أسطورية للمدن، تتفوق على خططها الواقعية، والتاريخية، نابع في الأساس من طفولة أولئك الكتاب، وسحرية انتمائهم إلى عالمها. فاعلية المكان مهمة جدا في إنتاج حكاياتهم. المكان ليس مجرد صورة، إنه في الروايات كائن حي بروح متفردة: ليس مجرد حجارة صلبة، بل يمتلك بقوة سيولة الحضور والتأثير.

«أمومة المكان..»

لم تبتعد رواية (كان هناك بيت) عن هذه الرؤية، ولا ينقص الكاتب شيئا من عشق الانتماء إلى مدينته، لكن المختلف يتمثل في طريقة تعامله مع مادة ذاكرته، في كونها أعطت البطولة للمكان المؤنث. في (كان هناك بيت) كل الشخصيات التي تؤم (عوجة أبو الطرشي) تشغل حيزا هامشيا في النص ولا تمثل إلا نفسها، باستثناء أم جميل، المرأة النبيلة التي أعطت للمكان حميميته الأمومية الرحيمة والجميلة. هل ثمة قصدية من جانب المؤلف في تأنيث المكان في الرواية..؟ ربما لأن الشخصيات النسوية في النص، وربما في الواقع أيضا، تبدو أكثر غنى، ودرامية، من شخصيات الرجال. (يازي) الحفافة، القائدة النسوية، والناشطة بمعايير هذا الزمان، والمطلعة على أسرار النساء، وعالم الأنوثة، تبدو أكثر توهجا بالمقارنة مع زوجها الوطني، الذي قضى شطرا من حياته منفيا في نكرة السلمان بسبب مواقفه المعادية للإنكليز. (أم حب الله) لا أحد يعرف شيئا عنها، كان وجودها في المحلة بديهيا مثل شروق الشمس وسقوط المطر، دورها في توليد النساء جعلها أما للجميع، وما يشاع عنها من تكهنات وقصص، تثري هذه الشخصية، وتجعلها لغزا، وأسطورة. أم جميل، المرأة العقيم، رمز الأمومة المطلقة، والطيبة، والمحبة، والعطاء غير المحدود، ربت أولاد ضرائرها، بلا أدنى قدر من الأنانية، كانوا ينامون معها في غرفتها، ولما مات الحاج بكر زوجها، رضيت من ثروته الواسعة، عند تقسيم الإرث بأدناها قيمة، بيت قديم متداع وواسع. وفي قلبها اتسع حس الأمومة، لتصبح فيما بعد أما لجميع العوائل الفقيرة التي استأجرت غرف ذلك البيت. مثل هذه الشخصيات المسجلة في النص، بما تنطوي عليه من درامية وعمق، تصلح أن تكون مشروعات لأعمال روائية قادمة.

«ضغوطات..»

أعتقد أن الكاتب، وهو ينجز هذا النص، كان واقعا تحت ضغط هاجس التوثيق المهيمن عليه بقوة، أراد في عمل واحد أن يمسك بكل ملامح الحياة في المدينة، بتنوعاتها الإثنية والدينية والثقافية والسياسية والمهنية، وهو أمر يصعب تحقيقه، وإن تحقق على نحو ما غالبا ما يكون على حساب النوعية، والجودة، ومستوى الإبداع. أعتقد أن النص الروائي “كان هناك بيت” ، برائحته المكانية الساكنة، والمستقرة، ينتهي بانفجار بيت أم جميل، وكل ما أضافه المؤلف بعد تلك الحادثة يمكن النظر إليه بوصفه ملحقا للنص. مرة أخرى ثمة ما حمله على إنجاز هذا الملحق، مشاعر وهواجس متأتية من رغبته في تسجيل كل تحولات المكان والمدينة، كل وقائع تاريخها القريب، في نص واحد. متخطيا الطابع الدرامي للأحداث في هذا الجزء، والتحولات العميقة التي أصابت المجتمع الموصلي، والمصائر الدراماتيكية لشخصياته. هذه المرحلة من تاريخ المدينة كانت بحاجة إلى وقفة أطول. كان في الوسع مثلا كتابة جزء ثان في كتاب منفصل، يتضمن تلك التحولات، متناولا إياها برؤية وروية وعمق، ونفس روائي طويل، وتسجيل دقيق لرياح الزمن، التي عصفت بدراماتها العنيفة بروح المكان، وأغرقته بصراعاتها الدموية. بل يمكن للنص أن يتحول إلى ثلاثية روائية مهمة تلخص تاريخ المدينة.

«المكان: مصائر وهويات..»

يقدم الجزء الأول من الرواية الذي ينتهي بانفجار بيت أم جميل، فرشة مناسبة لإنجاز عمل روائي ضخم، فهو يمثل مقطعا وصفيا عرضيا، أشبه بالبروفايل لحالة مدينة ومجتمع، تنعدم فيها تقريبا روح الدراما والصراع، باستثناء البحث عن أسباب كسب الرزق، والصراع من أجل توفير لقمة العيش. وكل الصراعات التي كانت تحدث خلاف ذلك لها صلة بمشاكسات الأولاد، ونزاعات النسوة. وهي حالة تقترب كثيرا من طبيعة المجتمع الموصلي،في أربعينات القرن الماضي. في الجزء الثاني من الثلاثية المقترحة، يمكن تتبع مصائر أفراد وشخصيات من الأسر نفسها، خصوصا مع بداية الصراعات الحزبية، والرواية في نصها الحالي لامست هذه المرحلة، ولكن بإشارات سريعة، مستعجلة، لاهثة، والمفترض الأهم في هذا الجزء، أن يتركز البحث عن مصائر تلك الأجيال في حرب القادسية. ويمكن للجزء الثالث، أن يتناول التبدلات في مصير المكان نفسه، وهويته، واعني عوجة ابو الطرشي، وبيت أم جميل. من مكان عامر بالناس والحياة والأحلام، إلى خربة، إلى مزبلة، إلى ساحة لتنفيذ عمليات الإعدام، وقاعدة لإطلاق الصواريخ، إلى عمارة تجارية مع ظهور شرائح الأثرياء الجدد، من لصوص الثروات والشهادات والمباديء، حقبة ما بعد التغيير. يمكن لمثل هذه الثلاثية الروائية في حال عمل عليها المؤلف، وأنجزها، أن تقدم خلاصة لتاريخ المدينة، والبلاد. ومشروعا لعمل درامي تاريخي كبير، يمكن أن تتبناه جهات منتجة كثيرة.

«حجر وشجر وبشر..»

بزمنه الذاهب، انطوى عنوان الرواية (كان هناك بيت) على أسى عميق، وشجن متدفق، اقرب إلى الرثاء، إنه يوحي بالغياب والاختفاء والزوال. ربما ذلك هو ما حمل المؤلف، بصورة قهرية، على الحرص المبالغ به، في توثيق كل شيء في ذاكرته، بطريقة تشبه عين كاميرا. رواية تجاوزت في رصدها الدقيق والعجيب والمتنوع لتفاصيل الحياة الموصلية مقدرة أي كتاب من كتب التراث التي تسنى لي الإطلاع عليها. هنا يكمن سر الإبداع لدى المؤلف، وأسباب ضعفه في الآن نفسه، إنه عاشق كبير لكل شيء ينتمي إلى المدينة، ناسها، عوجاتها، لهجاتها، بيوتها، وخرافاتها. وهو مسكون بها بوعيه أو بلا وعيه، إنها ضالته الخلاقة، وبؤرة الواقعي والتخييلي لديه، وذاكرته المستفزة، ومعينه الذي لا ينضب، لكن ذلك العشق لا يكفيه نص قصير واحد، هو به حاجة إلى كتابة نصوص عديدة، ربما تشكل المدينة في ذهن الكاتب نوعا من سمفونية عشق لا يمل سماعها، مؤلفة من حجر، وشجر، وبشر.

عرض مقالات: