اخر الاخبار

للكتابة طقوس وفي معظمها انعكاسات شرطية يحققها الكاتب بتتابع وتكرار فأحياناً تشترط السكون مع الموسيقى أو فنجان قهوه وللمدخنين السكارة حاكمة، إلا أن تكتب وأنت تحت ضاغط ألم واعتصار الذات ولا سيما عندما تتوجه كتابتك عن فقيد كنت قبل ساعات تتحاور معه ويشوب حوارك الضحك و (النكته) والجدل المعرفي، وإذا بعد سويعات وأنت في نوم عميق يرن الهاتف ليوقظك ويخبرك أن صديق عمرك مات قبل ساعة، فتختلط الصدمة بصوته الذي لم يغادر مخيلتك. عندما تُرافقُ إنسان أكثر من خمسين عاماً تجد الكتابة عنه في إحراج أمام ضاغطين: العاطفة والموضوعية العلمية. إلا أني في هذه الاسطر سأكبح العاطفة بما تمنحني الموضوعية من قوة في الوصف والتحليل. وأقدم الرجل بموضوعية علمية كما يستحق.  (عاصم فرمان) فنان يمتلك خصوصية أداء يمكن تأشيرها بلغة التحليل النقدي انطلاقاً من خبرتهِ وتحولات الفن لديه، حقق ذلك بجهود منذ دراسته الأولى في معهد الفنون الجميلة في نهاية الستينات من القرن الماضي، وأستمر لتعزيز ذلك بجدل تفاعلي بين التطبيق والتنظير في نتاج نصه الجمالي، فكانت دراسته الاكاديمية الماجستير والدكتوراه أداة تطوير واثراء له. فضلاً عن خبرته في تدريس علوم الفن ولا سيما التاريخية للتشكيل العالمي والعراقي، حتى تمكن منهما ليؤشر في ذاته كأخر المدونين لتاريخ الفن التشكيلي العراقي، ليكون رأيهُ على محمل التعيين والبيان. إن في الكتابة عنه لا بد من اعتماد ثلاث مركزيات يتمتع بها:

الأولى: كونه فنان تشكيلي له بصمته الاسلوبية. بوصفه فنان يمتلك طاقة متميزة في التخطيط الحداثوي، ولا سيما صناعة جمالية للصورة التعبيرية للإنسان، هذا الذي يمكن رصده مع تحولات اسلوبه من ثمانينيات القرن الماضي إلى أن وصل بمستوى اسلوبي متميز في تقديم رؤية تعبيرية للشخصية البشرية بأعلى مستويات الانفعال التراجيدي المنفتح التأويل، اذ يمكن أن تحقق أشتغالاته في الرسم تأشيراً لمستوى من الخطاب النقدي الذي يقدم أعلى مراحل التفاعل في قراءة التلقي، حتى انعكس الألم الذاتي بعد وفاة نجله الوحيد بعمر الزهور في أعماله، فرسم الإنسان بطاقة تراجيدية يشوبها الاعتصار برسوم حداثوية تعبيرية تقدم العيون والأيدي بأكف منفتحة وخطوط متشظية في تكوين الجسد، هذا الذي تميزت به بناه التشكيلية ولا سيما في هندسة نصوصه، إذ يرى أن المكان مشوب بحلم تختلط به الألوان فهو بالرغم من امكانياته الأكاديمية الواقعية نجده قد غادر هذه الحرفية نحو تحديث للشكل والبحث عن علاقات داخلية في صناعة التخطيط والتلوين.

 الثانية: في ادارته الفنية والاكاديمية المتميزة. أما ما استطاع إنجازه في الثلاثة عقود الأخيرة في إدارته الفنية مع عضويته النقابية لفنون التشكيليين في تسعينيات القرن العشرين، وترأسه لجمعية التشكيلين العراق، فضلاً عن إدارته الأكاديمية بصفة رئيس قسم التصميم، وعميداً لكلية الفنون في جامعة الحديدة في اليمن وعمادة كلية الفنون التطبيقية في جامعة أوروك أخيراً، إذ استطاع أن يحقق تلك المزاوجة المطلوبة بين منظومتي الإبداع والأداء الإبداعي الجمالي والمعرفة الاكاديمية الفكرية للفنون، الأمر الذي التمسناه من أنشطة الجامعة في المعارض والمؤتمرات.

الثالثة: في بحثه الجمالي الذي توجه مع انجازاته الاكاديمية والتدريسية، بتقديمه جِلَّ خبرته التنظيرية المفعمة بقراءة التحول في الفكر والفن، منطلقاً من رؤيةٍ علميةٍ تُعد الفن منظومة معرفية لا تختلف عن المعارف المجاورة، وهو في هذا يقدم التحول كحتمية يفرضها منطق البحث العلمي، الذي أسس له (توماس مورنو) و(أرنولد هاوزر) في كتابيهما (التطور في الفنون) و(فلسفة تاريخ الفن). إن قراءة عاصم فرمان (الفنان، الإداري، الاكاديمي) اعتمدت منطق البحث العلمي ونظرية المعرفة للفنون، إذ أن حتمية التحول ترصد بمحفزاتها وتنكشف في ذلك منطلقاتها، وأخيراً تتحقق الرؤية النقدية ذات البعد التحليلي لفعل التحول كحتمية في جسد التطور.

رحم الله أبا الحارث كان محركاً للخطاب الثقافي التشكيلي العراقي، و بوفاته خسرنا أهم مدونه لتاريخ الحركة التشكيلية العراقية ولا سيما للشباب من ابتداءً من السبعينيات إلى العقود الأخيرة.