اخر الاخبار

لعل أكبر تحديات القراءة والكتابة تأتي من الفضاء السيبراني، من عالم الإنترنت، وسياساته للإستحواذ على عقول البشر، والهيمنة على اتجاهات تفكيرهم، عبر استحداث تقنيات متطورة، وصناعة محتوى يتسم بقدرته العالية على الجذب، والإستدراج، حتى لبعض العقول الحساسة والناقدة. فقد استبعدت شركات صناعة المحتوى، مفهوم القاريء من قاموسها، تماما، وحل بدلا عنه مفهوم المُستخدِم ( (the user في بناء ورسم استراتيجياتهم للعمل. فهي توجه لكل فئة عمرية، أو شريحة اجتماعية من المستخدمين، خطابا يتوفر على قدر عال من مواصفات مبهرجة وجاذبة. لا يحدث ذلك استجابة لضرورات تقنية، او ترويجية فقط، بل هي محاولة لتنميط الإنسان. اختزاله، وإفقاره، ثقافيا وروحيا، كمقدمة لتزييف وعيه، والتحكم بقراراته.

استبعاد مفهوم القاريء تعدى المسميات إلى سياسات ثابتة، وتطبيقات برامجية، مستحدثة، منها على سبيل المثال صناعة العلامات. هل بوسع علامة ما أن تعبر بما يكفي من العمق والصدق عن مشاعر كل البشر، في كل المجتمعات..؟ إنها محاولة لتحويل التنوع اللانهائي للثقافة البشرية، الغنى اللامحدود في وسائل التعبير، إلى نوع من نمط متداول، تسليعها في سوق افتراضي، بضاعة مسلفنة وجاهزة للاستعمال، ساعية إلى إلغاء دور الكلمة، الكلمة خصوصا، والتضييق على نزعة القراءة والكتابة لدى الناس، ما يفضي في النهاية إلى التوقف عن التفكير، وتسطيح الوعي، ووضعه في اطر جامدة، يسهل التحكم بها، وتوجيهها.

لم تتوقف اجراءات صانعي المحتوى عند هذا الحد، بل فرضوا في مواقع التواصل الاجتماعي على الكتابة حصارا من نوع أقسى. فهم يفضلون النصوص القصيرة جدا، ويفرضون ضمن شروط النشر، عددا مقررا من الكلمات، لا يسمح بتجاوزه، وهم إن سمحوا، سيواجه النص صعوبات في الإنتشار، يجعله، مقصورا على عدد جد محدود من القراء. أو تفرض عليه العزلة في مواقع متخصصة، محدودة التداول، بعيدا عن مناطق التأثير.

إن الصراعات بين الشركات والدول في ميدان الهيمنة على العالم السيبراني، هي في جوهرها، صراعات على اخطر سلطة لتزييف الوعي في التاريخ، والتحكم به، وتنميطه. السيطرة على أضخم ماكنة لإنتاج الروبوتات البشرية، والقطعان المليارية الموجهة في سورة مُستخدِمين.

في الجهة المقابلة من هذا الصراع المصيري العميق، يقف الكتاب والقراءة والكتابة، بوصفهم الوسيلة الوحيدة التي بوسعها تحرير الناس من سيطرة الوعي الزائف، وتدفعهم للتمسك بهويتهم البشرية، وتاريخهم التكويني والأنثروبولوجي، وفراداتهم ضمن تعددهم الثقافي، وخلق معنى ما لوجودهم في هذا العالم، بدل الإنجراف في نزعة الاستهلاك العبثي اليومي لهذا الوجود في الموبايلات، على نحو يجعلنا نشعر أن لا شيء يشغلهم غير هذا الجهاز. لا دراسة، ولا عمل. لا وطن، ولا مسؤوليات. لا أهداف، ولا طموحات. إنها خسارة الحاضر، وبدد الأعمار، وضياع المستقبل. وهي حرب تاريخية، ومصيرية، في مواجهة تقنيات غامضة، وملتبسة، وقوى مهيمنة. حرب لا نملك فيها سوى مساحة صغيرة من الأرض نقف عليها. إن اي توقف في صناعة الكتاب، ونشره، يفضي إلى خسارة ما تبقى لنا من تلك الأرض. يتمثل في تراجع خطير في عدد المهتمين بالكتاب، وانخراط المزيد من المحسوبين على عالم القراءة، في ماكينات صناعة الروبوتات. في هذه المعركة المصيرية، نحن بحاجة إلى نشر الكتاب على أوسع الأنطقة، وتنظيم المزيد من المعارض، والمراكز الثقافية المعنية بالقراءة، وتوفير الكتاب بمواصفات أنيقة، واسعار معقولة. أي خلق بيئة مناسبة، وجاذبة للقراءة. والأهم من كل ذلك مساعدة المؤلفين، الذين يكرسون أوقاتهم في التأليف، ثم يتفاجأون على عتبات دور النشر، بأن عليهم تحمل تكاليف الطبع، أيضا.

عرض مقالات: