اخر الاخبار

تضعنا رواية (العروج إلى شيراز) للروائي عباس لطيف، إزاء عالم مركّب ومأزوم بسبب الحرب وتداعياتها وأشكالها وتشظّياتها وهي تستحضر ثلاثة مخاضات تمثّل الواقع لتكابده الشخصيّات الثلاث المركزية في الرواية، وهي شخصيّة الشاعر (حافظ الشيرازي) العرفاني والإشكالي والمثير للريبة والقلق من وجهة معاصريه من السلاطين والملوك والغزاة، ومن طبقة المنافقين الذين يسميهم بطبقة (السالوس)، وقد كابد الشيرازي من عدّة حروب استهدفته روحاً وجسداً وعقلاً، حروب المرائين وحروب الغزو التي استهدفت مدينة شيراز ممثلّة بالأقوام والقبائل الغريبة وحرب التتر وهجومهم على المدينة.

أمّا الشخصيّتان الأخريان ممثلّتين بشخصيّة الجندي العراقي (جلال شاكر) و الجندي الإيراني (مير قرباني) وكلاهما يعيشان اوزار وفظائع حرب الثماني سنوات، ويخوضان القتال في المعارك والمواجهات والتعرّضات الشرسة والعتيقة، وعلى وفق هذا فإن هذه الشخصيّات قد عانت في الحرب بصيغتها ودلالتها السايكولوجية والوجوديّة (الحقيقية)، فكانت تكابد حرباً داخلية اجتماعية وقيميّة إلى جانب الحرب بمعناها القتالي، ولذا نجد مفهوم الحرب في هذه الرواية قد اتّخذت معاني ودلالات متعدّدة وموحية تنفتح على طاقة من التأويل وترحيل الفكرة من معنى إلى آخر، وأصبح الثالوث أو المثلث الذي تمثلّه الشخصيّات (جلال شاكر) و (مير قرباني) و (حافظ الشيرازي) هو المثلّث الذي يتشابك مع فكرة الحرب حين تحوّلت هذه الحرب إلى قوّة ضاربة لتدمير الذات ونفيها خارج مرجعيتها وقيمها وتطلّعاتها.

فالحرب وقوّة القبح الاجتماعي والثقافي أدت إلى حدوث حالة من الاغتراب المركّب، الثلاثة على اختلاف عوالمهم وأمكنتهم يعانون هذا التحدّي والصراع الناشب بين الذات والآخر حيناً، وبين الذات والموضوع، وبين الكائن الفرداني وإرادة وحروب القطيع، ونلحظ من الاغتراب بسبب حروب الإزاحة والإستهداف جسديّاً وروحيّاً واجتماعياً قد استحالت الى أفخاخ ضاربة وترويض وتدمير الذات، مما جعل هذه الشخصيّات تميل إلى التمرّد الفرداني وهي ترفض الواقع الذي تعيشه فحافظ الشيرازي يرفض طبقة الملق السلطوي من وجهاء وفقهاء وطامعين، وكذلك يرفض الغزاة والعتاة والتتر ويرفض جور ووضاعة السلاطين، مثلما يرفض (مير قرباني) و (جلال شاكر) الجنديان اللذان يتقاتلان على طرفي الخندق المضاد لكنهما سيقا عنوة إلى حرب غامضة ومجهولة لا تملك مبرّراتها الواقعيّة فتحوّلا إلى مجرّد أرقام وكائنات خاكيّة وهو أعلى حالات تدمير الذات، وخلق القطيعة الكلّية بينها وبين الواقع الذي تعيش في مخاضاته العاتية من دون ارادتها بل من دون اختيارها.

إنّ البناء الفني الذي صيغت به الرواية تجلّى عبر توظيف تعدّد الأصوات وتقنية (البوليفونية) فإنّ كلّ شخصيّة قدّمت نفسها عن طريق السرد، وعلى شكل بوح وفيوضات ذاتيّة تعبر عن هذا التمرّد والإغتراب وقطيعة الذات، ولعلّ هذه هي ملامح النسق الثقافي المضمر الذي تقدّمه الرواية لتكشف عن قبح القيم الارتكاسية للحرب بوصفها لحظة انشطار ولحظّة خروج عن المنطق والكينونة والتناغم باتجاه النزعة التدميريّة والوحشية والتقويض الكلّي للقيم الإنسانية وتوافقات الذات الإنسانية، واقتران هذا المعنى السلبي بمفهوم  دلالي تمركز حول فكرة الضياع بكلّ معانيه، فالشخصيات ضائعة وسط هذا المخاض الوجودي والتهشّم الداخلي وضياع الحياة وضياع الحاضر والمستقبل وقد قدّمت الرواية دلالة سيميائية عبرّت اجمالاً عن هذه الفكرة بضياع مخطوط رواية (ترجمان الأسرار) التي كتبها الجندي الايراني (مير قرباني) عن سيرة وحياة الشاعر حافظ الشيرازي، وضياع المخطوط هو التجسيد الدلالي والثقافي لضياع الشخصيّات الثلاث، لأَنَّ المخطوط هو المشترك الوجودي والرمزي بينها، وسبب هذا الضياع هو الحرب والقصف الشديد الذي جعل (مير قرباني) يسهو ويترك حقيبته في الموضع الدفاعي ليعثر عليها الجندي العراقي (جلال شاكر) الذي يعاني أشد حالات الإغتراب والضياع.