اخر الاخبار

إذا حاولت أن تجرب الكتابة السردية الروائية، وأنت قادم من منطقة إبداعية سردية مغايرة؛ فذاك يحملّك على ما هو إيجابي وسلبي. الأمر الإيجابي يتمثل: في كونك قريب من الجو السردي، والأدوات اللغوية السردية، ويمكن أن تستفاد بطريقة من هذه الخبرة الإبداعية في هذا اللون السردي المغاير الذي تمارسه، وهذا ما لا يتحصّل لكاتب يدخل عالم الرواية، وهو لم يجرب لونًا سرديًا آخر. أما الأمر السلبي: فهو صعوبة تخلصك بسهولة من تقاليد الكتابة السردية في اللون الإبداعي الذي تمارسه، والمغاير، للكتابة الروائية المحترفة. هذا ما حدث لعباس لطيف في كتاباته الروائية السابقة، وهو قادم من عالم السرد المسرحي الرصين، قبل إنجازه لروايته (العروج إلى شيراز)* ومع ان له نماذج روائية سابقة، خاصة فيما يخص تقديم ثيم مهمة، وشخصيات قوية وعميقة، وغزارة الأحداث وتنسيقها في حبكات محكمة، إلا أنه ظل أسير العرض السردي الكلاسيكي التراتبي، كذلك عرض الأحداث تصاعديًا وحتى نهاياتها، والتي تكاد تُعرف أو تُتوقع في أغلب الأحيان، وهو تحت تأثير اللون السردي المسرحي الذي يكتب به، إلا أنه استوعب اللعبة السردية الروائية تمامًا، وسيطر على أدواتها السحرية ، وهو يقدم لنا رواية مبهرة، ولها مفعول السحر، وهي تشدك، وأنت مأخوذً بأجوائها المفعمة، بالذات فرعها الصوفي (ترجمان الأسرار) والذي يعرج نحو حافظ شيرازي، وعوالمه الصوفية البهية. ثم يعود إلى العوالم الواقعية المؤلمة، لحرب الثماني سنوات، وتأثيرها العاصف على الطرفين المتحاربين، وما تسبب لهما من دمار مادي، ومعنوي، على نطاق الانسان، والمجتمع.  ان طريقة (الديلوج): عن طريق عرض مسودة رواية (ترجمان الأسرار) بطريقة الراوي العليم، وعلى مدى سبعة فصول، مبتدءا الرواية بالفصل الأول منها، الصفحة رقم (7) ومنتهيًا من عرضها في الفصل ما قبل الأخير، الصفحة رقم (289).كما ان طريقته هذه تعد عرضاً لصوتين بارزين، هما جلال شاكر، منذ الفصل الثاني، المعنون (المخطوط). الصفحة (23). وصوت (مير قرباني) منذ الفصل الثالث المعنون (الحرب قادمة). الصفحة (39). فرّق الصوتين على عدة فصول، وهي تسير بشكل متوازن، وبالتوازي، مع الخط السردي العام، لترجمان الأسرار.

كذلك نجد طريقة المذكرات التي رواها، جلال شاكر من مذكرات (مير قرباني) التي تحصّل عليها، خلال أحد الهجومات على المواضع الإيرانية في نهر جاسم، مع مسودة رواية (ترجمان الأسرار) ومجموعة الرسائل وغيرها. ونتبين من طريقة عرض بعض الرسائل المتبادلة، بين الجندي الإيراني مير قرباني، وزوجته، وحبيبته الجميلة (بهار) وهما يتأملان قدوم طفلهما الموعود. حيث يسرد جلال شاكر: ((وكم أعجبتني عبارة بهار في أحد رسائلها حين خاطبت قرباني: إننا يا حبيبي لا نعيش مرتين، وصدقني، تنتهي هذه الحرب المجنونة، وسيولد طفلنا، ليرسم لنا عالمًا زاهيًا، ويحقق حلمنا...)). عباس لطيف رسم شجرة روائية مفعمة بالجمال، وجعل فرعها الزاهي (ترجمان الأسرار) في أعلى هيكل الشجرة، والفرعان الباقيان (مير قرباني) و(جلال شاكر) يحومان حوله، ويلتفان أحيانًا بطريقة عرض حية، تجاوز فيها كل المآخذ في كتاباته الروائية السابقة، وطرق باب الحداثة، والاحتراف الروائي، بقوة. وباستثناء الفصل الأخير من الرواية، وجدنا سردًا اجتراريًا، منذ بداية الفصل في الصفحة (307) وحتى الصفحة (320) وكان يمكن للروائي، الاستغناء عنها من دون أن تؤثر على انسيابية الرواية، أو تحدث ثغرة فيها، ليبدأ الفصل من اللحظة التي قرر فيها السفر إلى ايران؛ للعلاج، ومحاولة مقابلة مير قرباني. رواية “العروج إلى شيراز” مفعمة بالأفكار الفلسفية المطروحة بطريقة سلسة ومستساغة ولتعلن وبجدارة عن مستوى الاحتراف الروائي الناجح.

_________________

*صدرت عن دار كلكامش/ بغداد 2023.

عرض مقالات: