اخر الاخبار

في روايته الأولى ( نعل مقلوب)”1” ينشغل سعد هودة برصد بعض التفاصيل لحوادث جرت أحداثها في المجتمع العراقي وبالتحديد في مجتمع العاصمة “ بغداد” بعد الإحتلال الأمريكي في 2003م.

ولعل الكاتب عن طريق روايته عمد إلى رصد التحولات التي احدثها الاحتلال في بنية الفرد النفسية والاجتماعية، ومن ثم في بنية المجتمع ككل، وفي أعماق المدينة( مدينة بغداد) التي جرت أحداث الرواية في شوارعها وبيوت أحيائها.

فالرواية تقدم أشخاصاً معقولة في خلفية من الحياة اليومية ( ليست بالضرورة أن تكون الحياة اليومية المألوفة لدينا، مادامت هي الحياة اليومية المعروفة لشخص ما في مكان ما) وهي تعرّفنا بأحداث نقبلها ونصدقها، ونؤمن مسبقاً بإمكانية حدوثها، كما أنها تحلل الشخصية ودوافعها التي تحفزها على العمل، ببصيرة نافذة، سيكولوجياً وأخلاقياً. وهكذا فإن شخصيات الرواية تصور موقفاً نعيشه جميعاً بلا استثناء، فنحن لا نعيش حياتنا الخاصة فحسب بل حياة المجتمع الذي يجمعنا في آن واحد.”ّ2”

وثيمة الرواية المركزية حريق في دار رعاية المشردات في الأعظمية، كما ورد على لسان مديرة الدار التي وصفته بقولها “ ص8” : “تمرد من قبل بعض النزيلات جعلهن يحرقن البناية، ويحترقن بعد أن أغلقن باب الغرفة عليهن واحرقن أنفسهن في الطابق الثاني من الدار”.

ويبدو أن مؤلف الرواية وتعاطفاً منه مع نزيلات الدار اللواتي احترقن أهدى روايته إليهن:

وامامنا أن نوضح للقارئ خلفية الحدث الذي دارت عليه الرواية وعلى لسان بطلتها مروة التي لخصت لضابط التحقيق ولعمها سلوان ما حدث وأسبابه قائلة:

“نعم.. أنا فعلت كل هذا ولكن بأيديكم أنتم.. أنتم الذين حولتم طفلة إلى (أم)، أنتم الذين شوهتم الحياة لدرجة الفجيعة، الآن  تسالني وكأنك لا تعرف أن البشاعات تحدث كل يوم في هذا البلد وتحتاج إلى كاميرا فقط لتعرف حجم المأساة التي نعيشها”.

هذه قصتي أنا.. قصة ( مروة صفوان) التي خسرها أبوها في لعبة قمار والتي فقدت بكارتها من دون خطيئة لتصبح ( أماً) ولأن كل شيء مشوه تضطر لقتل بناتها، وهي تصر على إخبار الجميع بذلك.

والمؤلف ينجح في اختيار موضوعه الروائي الذي يستمد بنيته من المدينة ومن أعماقها..

من ( المجتمع) السفلي الذي عملت الأحداث على تنمية جذوره الواهنة التي قد تكون موجودة في أغلب مجتمعات المدن دون أن ينتبه إليها أحد.. ولكن مجتمع هذه الرواية، وهو مجتمع عاصمة عريقة بجذورها التاريخية ومجدها الذابل له تفسير آخر.. تضخم حد ( البشاعة) بعد تعاقب حقبة سياسية متتالية لم يتهيأ للبلد فيها الإستقرار السياسي الذي يهيئ للبلد أسباب التنمية في المجالات الصناعية والزراعية والتعليمية، كما لم يهيئ للفرد فرص العيش الكريم الذي يعمل على تنمية طاقاته واستثمار مؤهلاته في بناء مجتمع حضاري تتقلص فيه فرص وعوامل  الانحطاط السلوكي وتدني القيم الأخلاقية في الطبقات السفلى من المجتمع التي يفترض أن تحظى بالرعاية التي تعمل على رفع البؤس المعيشي عنها وإتاحة فرص العمل والتعليم أمامها لتتحول إلى أيادٍ منتجة تقلص ركام البؤس في أعماق تلك الطبقات المهمشة.

لقد عمل ( الإحتلال الأمريكي) للعراق على وضع الحبل على القارب، وأتاح بـ ( الحرية) المزعومة التي بشر بها أن تنمو طبقات طفيلية عملت على تخريب المجتمع من الداخل.. طبقات لا تهتم بأخلاق المجتمع ولا بثقافته وتقاليده، وإنما هدفها تحقيق مصالحها بالإثراء كيفما ومن أين يأتي.

ولقد استغلت تلك الطبقات السياسية انفلات حبل الأمن إلى استغلال كل الفرص للثراء غير المشروع وانتهاج أي سبيل متجاوزة القيم والأعراف والتقاليد بعيداً عن رقابة الضمير والقوانين.

الرؤية في الأساس تشير إجمالاً الى التجارة بالأجساد عبر توفير البغاء واستغلال الطبقات الفقيرة من شرائح المجتمع وبالأخص شريحة الأطفال المشردين.

 ( نعل مقلوب) رواية أسهبت في رسم صورة واضحة لمأساة تلك الشرائح المظلومة لفقرها ولقسوة الأيام عليها ووطأة الأنظمة السياسية الهشة التي لم تتح لها أن تعيش بسلام وطمأنينة كما هو المأمول من نظام سياسي كان يفترض ان يكون عادلاً ومتوازناً يعمل على بناء المجتمع وتقدمه واستثمار طاقة أبنائه بشكل سليم، بتهيئة  فرص التعليم والتثقيف والعمل  لإنقاذ المجتمع من الخراب والدمار.

هذه الرواية الجريئة سلطت الضوء على قاع المجتمع وأفاعيه السامة، وعلى النظام السياسي الذي يقود المجتمع، لذلك راينا الحادث يأخذ صداه في نفوس أبناء المجتمع، الأحداث هي التي تصور الحياة، التافهة وغير التافهة، والهامة وغير الهامة.

ولما كانت المرأة عنصراً هاماً في حياة المجتمع فلقد زخرت الرواية بنماذج، كل نموذج منها يمثل طاقة معينة ولكنها مشلولة لهذا السبب أو ذاك.

إن أجواء الرواية تصور ألوان ومعاني نجح المؤلف في ترتيبها لتبدو كلاً متماسكاً ينقلنا إلى الواقع المر الذي نعيشه اليوم.

عرض مقالات: