اخر الاخبار

د.لاهاي عبدالحسين في كتابها (من الأدب إلى العلم دراسة في علم اجتماع القصة والرواية العراقية للفترة 1920 2020) إصدارات وزارة الثقافة والسياحة والآثار بغداد 2021، تناولت فيه سبعة من عمالقة القصة والرواية العراقية احتفاء بهم، فضلاً عن الاحتفال بمئوية عراق الحضارة والعلوم والفنون والآداب إنّه لأمر بالغ الصعوبة والأهمية معاً أن تستحضر ( الباحثة )، المشهد الثقافي عبر سياحة اعتمدت فيها مشرط الحريص الأمين والمتمكن وفرشاة الفنان المرهف، في جولات رصينة وعطاء قامات شامخة، من بينهم من كانت له الريادة في السرد العراقي، إلى جانب من لهم جهد واضح ومميز في إرساء مثابات للإبداع.

تكمن صعوبة البحث، في خوض غمار فرع جديد في ميدان المعرفة الإنسانية. ذلك هو علم اجتماع الآداب. وقد أرادت الباحثة في هذه الدراسة “أن تكون خطوة على طريق طويلة في هذا المجال.في ماعدا ذلك يمثل هذا العمل مسعى علميّاً ذاتياً أملته الرغبة الفردية لخوض ميدان الأدب القصصي والروائي من وجهة نظر سوسيولوجية”. ص6

أدرك جيداً أن مهمة التصدّي لهذا الأثر الحيوي صعبة هي الأخرى، ولكن حسبي أن أقول فيه كلمة هي بعض ما عليّ من دين كمتلقٍ لهذا الأثر الرصين.

يتجلى ما تواجهه (الباحثة) من صعوبة، في اختيار ما تؤسّس له في علم اجتماع الأدب. ولنا أن نتصوّر ما تلاقيه من حرج عند تناول سبعة مبدعين من العديد ممّن برزوا على الساحة الأدبية. “يرتبط ما جاء بالعنوان، مائة عام من تاريخ القصة والرواية العراقية بتواريخ إصدار الروايات المدروسة والتي تزامنت بدرجة كبيرة في الفترات التي سعت لتغطيتها. نشر محمود احمد السيد أولى قصصه في العشرينيات من القرن الماضي، وتوج فلاح رحيم الخاتمه بروايته (صوت الطبول من بعيد) 2020” ص7 إلى جانب دراسة منجز كل من المبدعين عبد الحق فاضل وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وإنعام كججي وجاسم المطير.

ميدان البحث هو القصة والرواية، وقد كان لدي الباحثة “مصدراً للتعرف على التوجهات الفكرية والفلسفية وحتى الأخلاقية للكاتب أو الروائي، ولكنها لا تقف عند هذا الحد. تنطلق من فكرة أنّ الكاتب والروائي ابن بيئته الاجتماعية والثقافية.. بيد أنّ العلم والبحث العلمي يتقيد بقواعد المنهج وطرق الدراسة وطبيعة أدوات العمل ممّا يحدّ من قدرته على الإحاطة بالصورة الكلية، بالسهولة النسبية التي يتمتع بها الأدب قاصاً أو روائياً” ص8

ولكي تُشرك (الباحثة) القارئ ولو إلى حين. لا تستنفر حاسة التلقي لديه فحسب بل حتى عند المشتغلين في هذا الميدان. تلجأ إلى طرح الأسئلة. “هل يمكن افتراض أنّ الروائي يملك القدرة على إعادة ابتكار المجتمع وتقديم رؤية جديدة؟ هل يملك الروائي القدرة على تقديم أدلة ترقى إلى أن تكون مقبولة علمياً ؟ هل يرسم الروائي مسار المجتمع والتاريخ بطريقة ذات مصداقية ؟ هل يصحّ القول إنّه أعاد اكتشاف الحقيقة الاجتماعية”) ص10

ما يلاحظ على أسئلة (الباحثة) أنها استفهام تصديق لا استفهام تصوّر. تتم الإجابة عن الأول (التصديق) بالنفي أو الإثبات، على خلاف الثاني (التصوّر) الذي يتيح فرصة اختيار الإجابة من بين ما يطرحه السؤال من خيارات. وهذا يعني أن (الباحثة) أرادت بتلك الأسئلة طرح قناعتها وآخرين ممّن يرون ما ترى، النفي لا الإثبات “( فالقاص والروائي يكتب متحررا من قواعد النظرية والمنهج. ويجمع في الغالب بين الواقع والخيال والخيار الشخصي ليقدّم مادة تساعد على التفكير والتأمل والمتعة أكثر منها أيّ شيء آخر... لأنّه جهد أشخاص مبدعين وضعوا خبراتهم وثقافتهم ونظرتهم إلى الحياة في خدمة من يقرأ لهم “. ص10

تسعى (الباحثة) بما عرف عنها إلى متابعة كل ما يُسهم في إنجاز مشروعها على الوجه الذي يشكل إضافة رصينة إلى علم اجتماع الأدب، فتلجأ إلى رصد شفرات الأعلام ممن لهم خبرة في هذا الميدان، لإطلاع القرّاء على طبيعة هذا العلم ومتابعة سيرورته بين العلوم والمعارف الأخرى. ومنهم سيجموند فرويد (1856 - 1939).

“وصف فرويد ما ينجزه الأدباء والفنانون أنه أشبه ما يكون بالأحلام التي حلموا بها.. إنهم يستلهمون من خلال منتجهم ما يسكن في منطقة اللاشعور في تكوينهم النفسي، ويعتبرونه من خفايا العقل الإنساني.. ولكنهم يحررونه على الورق بصيغة قصة أو رواية “ ص12

تحرص (الباحثة) على ان تعطي كلّ ذي حقّ حقّه في ميدان الاجتهاد وطرح الأفكار الخاصة بأولئك الذين مهدوا لعلم اجتماع الأدب، ومنهم ماكس فيبر (1863 - 1920).

“اهتم فيبر على صعيد الأدب باللغة عاملاً مهماً لتوحد الأمة والمجتمع، ولكنه ينبه إلى أنهّا غير كافية بحد ذاتها لتحقيق ذلك الهدف.. ولكنها تُصاعد وتائر التحوّل الديمقراطي للدولة والمجتمع والثقافة.. يفعل الأدب ذلك من خلال اختراقه لأكثر من مجال اجتماعي.. لعلّ فيبر من خلال تلك الأفكار مهّد لظهور علم اجتماع الأدب كفرع يمكن أن يساهم بإنعاش علم الاجتماع كعلم قائم بذاته” ص14/15

إذا كان فايبر قد أكّد على دور اللغة في توحيد الأمة رغم تحفظه على ذلك وانحيازها إلى الأدب وما يمكن أن ينهض به لـ “إنعاش علم الاجتماع” فإن آخرين قد أسهموا بأدوار فاعلة في مجالات أخرى من شأنها أن تؤسس لهذا العلم ومنهم “كارل مانهايم (1893 - 1947) أحد أهم المساهمين بالتأسيس لعلم اجتماع الأدب من خلال منجزه النظري في مجال علم اجتماع المعرفة.. _ حيث _ الدراسة المنظمة التي تهدف إلى تحليل العلاقة بين المعرفة والأفكار من جانب، والوجود الإنساني الاجتماعي من جانب آخر.. ممّا يؤهله ليكون مسعى اجتماعياً وتاريخياً”. ص15

ومن اولئك الذين يشكلون عتبة مهمه للتمييز بين الفلسفة وعلم الاجتماع هو إيميل دوركهايم (1858 - 1917) “نظر إلى المعرفة باعتبارها ابتكاراً اجتماعياً وأن ما يحدث أنّ الأفراد يطورون ما اسماه” تمثلات جمعية “لكل ما يهمّهم.. ولعل فكرة التمثلات الجمعية هذه أقرب إلى شروح ما يقوم به القاص أو الروائي من حيث أنّه يقدم ما يصل إليه عبر التفاصيل والانشغال به حتى عندما يبتعد هؤلاء عن مجتمعهم، إذ يبقون يحملونه في خيالهم ووجدانهم حتى يجد طريقه إلى الورق بصيغة منجز قصصي أو روائي” ص17

تواصل (الباحثة) طرح من أسهم في التمهيد لعلم اجتماع الأدب عبر دراسة الحالة الاجتماعية للأفراد وارتباطهم بما على الساحة من آداب وفنون، ومدى تفاعل المجتمع مع تلك الفعاليات ذلك هو ارفنغ كؤفمان (1922 - 1982) حيث يرى إمكانية “ المقابلة بين الحياة الواقعية من جانب والحياة على المسرح من جانب آخر.. ماذا لو قلبنا الصورة من زاوية أن يعبّر هؤلاء الروائيون عن تصوراتهم للمجتمع كما لو كانوا المؤلف والمخرج فيه. تصوُّر يقوم على قدر كبير من الخيال المستمد من الواقع. إنّهم يرفعونه ويتباهون به، ليس ليظهروه بصورة أجمل وأقوى وإنما ليجروده ممّا لحق به من تشويهات تسبغها طبيعة الحياة الاجتماعية” ص19

تطرح (الباحثة) المفكر العراقي علي الوردي منهجياً. _ عبر تقديمه _ “مثلا تطبيقّياً لفكرة الخيال السوسيولوجي لدى ميلر”. فهو يضع نظرية ابن خلدون على وفق مقياس ثلاثي الأبعاد :- الثقافة والمكانة الاجتماعية والشخصيّة. أعاد الوردي قراءة وتحليل نظرية ابن خلدون ضمن موضوعات شملت طراز الفكر / حجيرات الفكر، أو فيما أسماه في أعمال لاحقة قوقعات الفكر / طراز الفكر الإسلامي / طراز الفكر الخلدوني.” ص20 غير أنّها تستدرك إمكانية تطبيق تلك النظرية على وفق ما اعتمده ابن خلدون وما درج عليه الروائيون.

“لم تكن هذه الطريقة ممكنة في الدراسات الحالية من حيث أنّ هولاء الروائيين لم يكتبوا ضمن نظم فكرية محددة كما فعل ابن خلدون.... كتبوا في ضوء ثقافاتهم وخلفياتهم الاجتماعية وقناعاتهم السياسية وفي الغالب تجاربهم الخاصة”ص20

يتضح ممّا سبق حرص (الباحثة) على دراسة القصص والروايات العراقية في أكثر من مسار لإضفاء سمة الشمولية بما يجعل تلك الدراسة إضافة رصينة للمكتبة العربية بما تبذله من جهد استثنائي، لتقصّي كل ما يتعلق بها، ولم تغفل ما أسمته بـ( القواسم المشتركة) بين الروائيين بما يجعلهم شهودَ عدلٍ على ما عايشوه من وقائع.

عرض مقالات: