اخر الاخبار

ليست مصادفةً أن تنحصر ريادة الشعر العربي الحديث، وريادة الشعر العراقي الحديث ؛ بين بدر شاكر السياب ومظفر النوَاب؛ وكلاهما كان منتمياً الى حزب وطني تقدمي ؛ منهجه التجديد في الفكر والثقافة العامة ؛ بآدابها وفنونها ومناهجها، أعني الحزب الشيوعي العراقي..

وأنا أعني بالشعر العراقي الوطني، الشعر المكتوب والملفوظ بالنبرة العراقية الموروثة عن لغات ولهجات حضارات عراقية ؛ عمر بعضها يتعدى الثمانية آلاف عام : كالسومرية والأكدية والبابلية والآشورية والكلدانية.. وصولاً الى اللغات واللهجات النبطية والقرشية اللتين عرَقهما العراقيون ؛ في مدرستي البصرة والكوفة.. مع سعة وتعدد اللهجات العراقية وسطاً وجنوباً وشمالاً، بسعة العراق القديم.. والعراق الحديث الذي طوّعَ الكثير من مفردات الأحتلالين العثماني والبريطاني مع مفردات الجوار الفارسي ؛ فلقد أخذ أهل الجنوب مفردة (الريل) الانكليزية وتعريفها بالألف واللام، حتى صيروها مفردة شعبية جنوبية، بديلاً عن كلمة القطار الفصيحة. كما هي مفردة (اليطغ) العثمانية التي اعتمدت في الجيش العراقي الناشئ.

ريادة مظفر للشعر الوطني الشعبي العراقي، كانت ثورة حقيقية. حيث الشعر الوطني كان حبيس (الحسجة) والدارمي والزهيري والأبوذية مع المربَع البغدادي الساذج, كما هو حبيس الذائقة الصوتية العربية الغنائية.

فكيف أزاح مظفر كل تلك القيود، وأتى – كأنما ببساطة – بشعر آخر تماما، مبتعداً عن كل سابقيه، بل حتى لاحقيه، الذين وجدوا حرجا من الوقوع بفخ تقليده :

  صورة شهيد ريفي مجهول ؛ تبكي على جثته الدامية شقيقاته وجاراته الحلوات الكحيلات ؛ وكأنه يزجرهن :

  “ ميلنْ. لا تنكطن كحل فوك الدم ! “

وهي صورة لم يألفها شعر سابق.. ثم نعرف ان اسم الشهيد هو (صاحب) مع تصغيره للتحبب :

 “ جرح صويحب بعطَابه ما يلتم (يلتئم)

 ثم ستعرف ان (صويحب) فلاح :

 “ صويحب من يموت المنجل يداعي.. “

  وصور مظفر مستحدث أغلبها ؛ في الشعرين العربي والعراقي، وهي صور مفاجئة وصادمة، على الرغم من عفويتها الخادعة :

 “ ترخص. وأغليك وأحبك ! “

و : يا سولة سكتي! “ و “ جانت ثيابي علىْ غربة ! “

و “ مستاحش من عيوني! “ و “ شلايل بريسم.

والبريسم اله سوله ! “ و “ مرخوص. بس كت الدمع. شرط الدمع حدَ الجفن “ ومن دون مباشرة يقول لك أنه كان سجيناً. وأنت تعرف من خلال : “ “ حننْ حمامات السجن ! “.. أما اللمحة التي لا سابقة لها في كل الشعر الذي قرأناه أو سمعناه :

“ تعالْ بحلم. واحسبها الك جيَه وكولنْ : جيت ! “

ولقد ساهم شعر مظفر – المحفوظ من الجميع تقريباً – في مهانة مباشرة، او غير مباشرة، لكل شعر- ولكل شعراء المديح السلطوي مدفوع الثمن.

وابتعاد مظفر الاضطراري عن وطنه الى أرض أخرى والى ناس آخرين. قد أجبره على أن يكتب بلغة أخرى، يفهمها جمهوره العربي، ومع ذلك صار شعره الهجائي الفصيح جماهيرياً، على مستوى عربي، حتى لقد ظهرت في تونس جماعة (النوابيون)

من بينهم الشاعر التونسي المعروف (المنصف المزغني)

 وأخيراً أقول :

  ما مات الآن مظفر

  مات حين عاد الى العراق

  فلم يجد (ريلاً)

 ولم يجد حمد !

عرض مقالات: