اخر الاخبار

يذكر جابر عصفور في أحدى مقالاته أن طه حسين علمه أن ينشغل دائما بمفهومي (الثقافة والمثقف)  فمفهوم المثقف الذي أخذه عن طه حسين هو” الأنسان الذي يأخذ من المعرفة كل شيء، ويحاول أن يعرف كل شيء، وأن يكون له وجهة نظر في الحياة والأحياء”. وبعد أن تعرف عصفورعلى المفكر الفرنسي(لوسيان غولدمان) وكما يذكر تعلم منه أن المثقف “هو الذي يهتم بتحويل العالم من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، وأنه يسعى الى تحويل الحرية من واقع الفكرة المجردة إلى واقع العمل المتجسد فعلياً في الحياة مع الثمن الذي لابد أن يدفعه الإنسان في سبيل ذلك”. فمفهوم غولدمان للمثقف يقوم على الوعي الاجتماعي الكلي بقضايا المجتمع والدور الذي يمكن أن يؤديه في مجتمعه، والثمن الذي يمكن أن يدفعه مقابل الحرية التي ينشدها. علماً أن غولدمان تأثر بـ(جورج لوكاتش) وبكتبه (نظرية الأدب والروح والأشكال ونظرية الرواية)، فـ (علم الأجتماع في الأدب) هو إقامة العلاقات بين المجتمع والعمل الأدبي فالعلاقة بين التطور الأدبي والتطور الإجتماعي بنيات أدبية مرتبطة بالتطور الإجتماعي، فالعقائد والمذاهب والتصورات الجماعية والمؤسسات والثقافات ليست إلا مفاهيم تمثل الطبقات فهي من المجتمع في بنيانه الفوقي.علما ً أن جابر عصفور تناول في كتابه (المرايا المتجاورة دراسة في نقد طه حسين) الألتزام والحرية ومسؤولية الاديب (المثقف) الذي هو ضمير المجتمع (الكاشف والموجه) ضمن زاوية المسؤولية الأدبية أو الألتزام. فالتعارض القائم بين الخصائص الذاتية للأديب وطبيعة المجتمع، كما يطرحها طه حسين، بوصفها كياناً جمعياً يفقد الفرد فيه أكثر ما يمييز فرديته. وإذا كانت خصائص الأديب تقترن بالسعي إالى الكمال، وعدم الرضا عما هو كائن، والقدرة على النفاذ إلى جوهر الأشياء، والحدس في التقاط المعنى والدلالة، والتنبؤ بما سيترتب عليه سلوك المجتمع من نتائج، فتجعل من الأديب ضميراً كاشفاً لحقيقة المجتمع وموجها لحركته، فإن خصائص الجماعة في المجتمع تقترن بلون من التسطح، والآلية، والخضوع إلى الأهواء التي تتعارض مع العقل،فيصبح الأدب مرآة للمجتمع ويصبح الأديب سجيناً للجبر الاجتماعي. وعندما يختفي الجبر الاجتماعي، والحتمية الأجتماعية ويتضخم الفرد الأديب في مواجهة المجتمع المتلقي، ويقترن الأدب بمرآة الضمير التي تكشف الغطاء عن المجتمع، ويقترن نشاط الأديب بلون من الحرية؛ يبتعد الأديب عن حركة المجتمع، بل عن حركة التاريخ. وعلى وفق هذا الطرح نصبح أمام دور المثقف (الأديب) وهذا الدور متأثربوضوح بالأفكار الماركسية التي ترى أن مهمة الفكرليست تفسير العالم بل تغييره، فضلاً عن النفوذ الفكري الواسع الذي مارسه الفكرالوجودي في الستينيات من القرن الماضي ومقالات (سارتر) الشهيرة حول الأدب  والمثقف الملتزم. ويمثل الدور الاول للمثقف في أن يُساير مجتمعه ويكون مرآته الصادقة دون أن يطرح ما يخالفه،فيعمل على أصلاحه دون أثارة ونشر (عيوبه) وفي هذه الحالة يفقد المثقف حريته ويبقى ضمن المنظومة الفكرية لمجتمعه، اما ان يكون دور المثقف معارضاً للمنظومة الفكرية لمجتمعه فيعمل على تقصي (عيوبه) ونشرها فهو يقع  ضمن المغضوب عليهم ولكنه يكسب حريته. وبعد أن تعرفنا على علاقة المثقف بمجتمعه أين نحن من هذين الدورين من السلطة ؟. أن (عيوب) المجتمع في الواقع هي نتاج التخلف السياسي والإجتماعي والإقتصادي والثقافي الذي يقع على عاتق السلطة فهي مشكلات متأزمة في المجتمع وعندما يتم التصدي لها من قبل المثقف يقع تحت طائلة غضب السلطة، فتعمل السلطة على رص جميع المشكلات في طبق واحد،فاذا تناولها مثقف ضمن منظور(الخبير المحايد) يتمتع برضى المجتمع والسلطة، أما اذا تناولها ضمن منظور(راديكالي)،فهو يقع ضمن غضب المجتمع والسلطة، فليس بالضرورة أن يتناول المثقف جميع هذه المشكلات ليقع تحت طائلة الغضب،فغالباً ما يتم برمجة درجات الغضب وعلى وفق مصالح السلطة وليس المجتمع.

ويميز طه حسين  المثقف عن أفراد مجتمعه بقدراته العقلية وملكاته الوجدانية،فهو بمثابة الضمير لمجتمعه ويحتل مكان القلب من (الصفوة) القائدة التي تقطن ذرى الهرم الأجتماعي أو ينبغي أن تقطن. وعلاقته بالمجتمع علاقة الأعلى بالأدنى. عليه أن يقول وعليهم أن يقرأوا، ومن حقهم أن يعجبوا أو يسخطوا، ولكن ليس من حقهم أن يمنعوا أديباً من القول (ولماذا يمنعون قولا لا يُراد به إلا صالحهم الذي يستأثر المثقف دونهم بمعرفته؟) يستمر جابر عصفور بطرح افكار طه حسين في ميزات المثقف التي تتمثل في (الاستقلال والحرية والصدق والصراحة والثورة) وليس الثورة السياسية إلا أستجابة لثورة العقل.. الأدباء (المثقفون قوم يحلمون، والثورة تعبير وتفسير لأحلامهم). وعندما يتخلى الأديب عن التزامه تختفي المرآة الموجبة، مرأة الضمير الناصعة لتحل محلها مرآة معتمة ترادف الادب الزائف الذي لا يطور الحياة أويغيرها. بعد أن يعرض جابر عصفور دور المثقف (الاديب) وعلى وفق ما طرحه طه حسين مناقشاً ومقارنا مع أدوارالمثقف في الفكر (الماركسي والوجودي)، يطرح أفكاره بضرورة العودة الى الدور التنويري للمثقف في كتابه (هوامش على دفتر التنوير) بعد التراجع الذي حصل في  الميراث التنويري الذي أفتتحت به مطلع النهضة في بداية القرن العشرين والتخلف (الإجتماعي – الاقتصادي) الذي يكشف عن بنية تسلطية وجهها السياسي والفكري  يعادي الدولة المدنية ومركزية تساعد على ترسيخ مبادىء الإجماع والطاعة والتصديق والتسليم والإذعان والقبول. وسيادة الأنظمة التسلطية التي لاتنطوي على قيم الحرية والعدل،ولا تعترف بحق الاختلاف، أو مبدأ تداول السلطة، أو ضرورة الفصل بين السلطات. فالإستبداد السياسي  هو الوجه الأخر للإستبداد الفكري. وفي مقال رافق الاحداث التي عصفت  بمصر (في شهر ديسمبر 2011 في جريدة الأهرام) يتحدث جابر عصفور عن الدولة التسلطية التي أنفصمت علاقتها عن الدولة المدنية وتميزت بالخصائص التالية وهي (أحتكار السلطة عن طريق أختراق مؤسسات المجتمع المدني، وتحويلها من مؤسسات وتنظيمات تضامنية مستقلة إلى مؤسسات وتنظيمات تابعة لسلطة الدولة و اختراق النظام الاقتصادي، سواء عن طريق التأمين ولوازمه أو توسيع القطاع العام والهيمنة البيروقراطية علي الحياة الاقتصادية، فشرعية نظام الحكم في الدولة التسلطية لاتقوم على الشرعية الدستورية والقانون العادل، وإنما تقوم على العنف والإرهاب والقمع أكثر من الاعتماد على الشرعية المعترف بها في الدول الديمقراطية الحديثة التي تقوم على مبادئ المواطنة والفصل بين السلطات وتداول الحكم والتعددية السياسية).

وتستمر مقالات جابرعصفور في نقد السلطة المباشر من خلال نقد الثقافة في مقاله في جريدة الأهرام في ((5 ديسمبر2011) وتحت عنوان (شابان وثقافتان متعاديتان) اللذان التقيا في ساحة التحريرالشاب الأول الذي يمثل الحماسة الوطنية الشديدة‏ ضد السلطة السياسية التي أوصلت البلاد الى المثلث المعروف (الفقر والجهل والمرض)، والى مظاهر(الفساد وتزوير الانتخابات وتوريث السلطة وقتل المتظاهرين) الذي راح ضحية لفعل الشاب الثاني الذي (غسلوا له دماغه، وأفهموه أن إطاعة أوامر القيادات هي من طاعة الله، وأقنعوه أن المتظاهرين ليسوا إخوانه أو أخواته في الوطن وإنما هم اشرار وعملاء للكفار، ولابد من استئصالهم لإنقاذ البلاد). يُحٌمل جابر عصفورالثقافة وزر ما جرى في ساحة التحرير التي أفرزت سلوك شخصيتين متناقضتين في المواقف أزاء الوطن. نحن اذن أمام جابر عصفورالمثقف الذي  يحمل هو أيضاً موقفين متناقضين نتعرف عليهما من خلال حوارمعه نُشر في جريدة الأهرام بتاريخ 28 مايو 2011. ليؤكد هذا الحوار ما يمكن أن يلمسه الفرد الذي تابع سيرته على مدى عقود طويلة.

الأول: جابر عصفور (حارس التنوير) الذي تعرفنا عليه ضمن ما طرحه عند مناقشة ادوار مثقف طه حسين الذي ينتقد ثقافة مجتمعه بجميع تراثه الفكري دون أن يُغضب السلطة، فجميع شخصيات التراث كانت تحت مجهره بين ما تناوله في كتبه العديدة ومنها (هوامش على دفتر التنوير)، وفي ضوء هذا الدورفهو تولى رئاسة المجلس الأعلى للثقافة عام 1993 الى 9 فبراير  2011 فهو على يسار الفكر الليبرالي فتتعدد مناصبه اضافة الى رئاسة المجلس الاعلى للثقافة والمجلس القومي للترجمة الذي تولاه كمكافأة بعد أحالته على التقاعد،والمجلس القومي للمرأة فضلاً عن عضويته وتأثيره المباشر في قرارات لجان منح الجوائز الأدبية بمختلف مستوياتها. فكان دوره يتمثل بإدخال المثقفين حظيرة السلطة ضمن مسميات متعددة (منح جوائز وعضويات اللجان و السفر والإيفادات...وغيره من العطايا).ويختلف مع رجال السلطة أحيانا ًدون أن يصل هذا الأختلاف الى القطيعة. تسلم منصب وزارة الثقافة في أخر تشكيلة وزارية في نظام حسني مبارك على خلفية أحداث يناير2011 ليضفي شرعية لنظام سياسي لم يعد شرعياً، ولم يستمر فيها أكثر من 8 أيام لتردي الوضع في مصر بصورة عامة، مبرراً أستلامه منصب وزارة الثقافة في وضع آيل للسقوط العام (أنقاذ متاحف مصر).

الثاني: جابر عصفور الذي يقول (السلطان هو من بعد عن السلطان) في جواب له عن حصيلة تجربته في التقرب من السلطة. علماً أن معظم خلافاته مع وسطه (الثقافي – الوظيفي) هو الصراع على مظاهر السلطة (مراكز وظيفية، وجوائز دولة وتخصيص أعمدة وابواب لنشر مقالاته في الصحف الرسمية و نشر مؤلفات و حضور مؤتمرات ولجان على المستويات كافة...)،و بعد تدهور الأوضاع خلال ثورة 25 يناير 2011  تحولت مقالاته بتسميات واضحة، وأخذ يحٌمل الثقافة السائدة التي أدت الى العنف على الرغم من أنه قاد ثقافة مصر أكثر من 18 سنة (رئيس المجلس الأعلى للثقافة) ويبرر موقفه بأنه لم يكن صاحب القرار الأخيرعلى مدى عمره الوظيفي، كما حّمل رموز السلطة (رئيس الجمهورية والكابينة الوزارية) في كل ماحصل في مصروأنهم السبب في تدهور الأوضاع، علماً أنه يذكر (عدم توقعه سقوط النظام السياسي بهذه السرعة)، فقد توقع سقوط النظام قبل يوم واحد فقط. وهو الذي تحدث الكثير عن سلطوية الأنطمة السياسية العربية في جميع كتابته لكنه يذكر أن رئيس النظام وزوجته (بخير) فقد أحسنا اليه ولايمكن أنكار فضلهما في مواقف كثيرة على الرغم من أنهما يمتلكان عدة وجوه فقد رأى منهما الوجه الطيب، كما أنه لم  يرفض القيم النقدية من الجوائر التي رفضها (بعض المثقفين) من النظم السياسية التسلطية.

عرض مقالات: