اخر الاخبار

(حتّى نفهم القصّة، علينا أن نعرف أنّه في أسطورة الخلق السّومريّة كان جميع من في الارض ينتهون الى الجحيم ولكن يخفّ العذاب عنهم في حالات: إذا دفن الميت بشكل لائق، إذا قدّم الأهل قرابين للآلهة، إذا كان الميت قد أنجب ذرّيّة كبيرة، أو إذا كان من سلالة غنيّة)

تساءل الجالس على العرش (أنو) إله السّماء السّومريّة وهو يمدّ بصره اللّامتناهي الى الخارج “ماهذه الضّجّة؟”

كان ثمّة رجل رثّ الثّياب يحمل لافتة، يروح ويجىء أمام بوّابة الإله غير آبه لزجر الحرّاس له؟

صاح حاجبه وسأله:

- ماذا يحدث خارج بابي؟

- هذا رجل من البشر يصرّ على الحضور بين يديك

- ألم تخبره  أّنّي لا أرى سوى الأنوناكي؟

- أخبرته بذلك يا مولاي فقال أنّه سيظلّ واقفاً أمام البوّابة حتى يجاب طلبه

اهتزّ الجالس على العرش غضبا لكنّه أمر بأن يدخل البشريّ، وحين حضر أمامه بادره بالسّؤال:

- حسنا، ماهي المشكلة؟

- أما يكفي يا مولاي أن اجد نفسي هنا دون رغبتي وفي وقت غير مناسب تماماً، قبل أن أنهي مهامي تحت، حتّى أكون مثل لعبة يتقاذفها إله الجحيم نركال ورسول الموت نمتار دون أن يسألني أحد رأيي؟

أذن له الاله بالانصراف بعد أن وعده أن ينظر في أمره، ثمّ أرسل في طلب الملّاح (هامو طابال) ناقل الموتى فوراً، لكنّ الحاجب عاد ليقول أنّه لم يجده في مكانه ، فأمره الإله أن يبحث عنه في أرجاء السّماوات والأرض. وبعد فترة طويلة من الانتظار، أطلّ من الباب الملّاح ذو الأربعة رؤوس الشّبيهة برأس الطّير. كان معفّر الهيئة يبدو عليه التّعب والمرض ونفاد الصّبر.

قال الأله أنو:

- ما الّذي أخّرك؟

جلس ناقل الموتى دون  استئذان واطلق تنهيدة من مناقيره الأربعة:

- انّي اشتغل طوال الوقت. لا أستطيع أن أرفع رؤوسي من دفاتري أو يدي من مجدافي. تعرف يا مولاي أنّ الحال لم يعد كما كان، فمنذ أن أطلقتَ يد (إرا) اله الوباء والحرب وهو يتنقّل بسرعة من بلاد الى أخرى مخلّفاً الموت والخراب وأنا أركض هنا وهناك، حروب ومجاعات وأمراض واعدامات وحوادث. ورغم كلّ هذه الكوارث صاروا يزدادون عدداً و يأتون الينا أفواجاً أفواجاً حتّى لا أكاد ألتقط أنفاسي

تنهّد الإله وقال:

- أجل، من كان يصدّق أنّ  الأمر سينتهي على هذه الصّورة؟ ولكن على أيّة حال عهدي بك جدير بالمهمّة الّتي أوكلتها اليك. ولا تنسَ أنّ البشر معذورون فمن تزيد ذريّته يقلّ عذابه عندنا. يمكنك أن تنصرف وفي طريقك اطلب من الحاجب  أن يمثل أمامي.

حين دخل  الحاجب طلب منه الإله آنو أن يحضر الإله نمتار بين يديه. فجاء هذا يسعى فبادره آنو:

- نمتار أنت اكثر من كونك رسول القدر والموت ومندوب إله الجحيم الى مجلس الأنوناكي، فأنت عين لي هناك، وأريدك أن تصدقني القول. سمعت عن ازدحام الموتى وفوضى الجحيم. كيف هو الحال تحت؟

قال نمتار بصوت خفيض:

- أصدقك  القول يا مولاي أنّ قضاة الجحيم السّبعة في حيرة كبيرة،  فالبشر في السّابق كانوا يموتون في بيوتهم والأهل يقدّمون لنا الذّبائح والقرابين لراحة موتاهم. الآن صاروا يموتون في الجبال والقفار وحتّى البحار بعيداً عن أهاليهم وفي بلاد لم نسمع عنها. منهم من يذهب مقاتلاً ومنهم مهاجراً وقد اختلط الحابل بالنّابل، وعادة لا يسمع الأهل بموت أبنائهم إلّا بعد حين، وهكذا يأتي هؤلاء الينا ويحتار القضاة في نوع العذاب المناسب لكلّ واحد

- الى هذه الدّرجة؟

- نعم يا مولاي وأكثر، فمع كثرة المجاعات قلّت القرابين، ومع اختلاط الأوراق، لم نعد نستطيع نسب الأولاد الى آبائهم ليقلّ العذاب عن هؤلاء حين ينتهون الينا، إضف الى كلّ هذا قلّة الموظّفين لتسجيل مؤهّلات  الأموات للرّاحة أو العذاب.

بدا الغضب على آنو وهو يقول بصوت عميق:

- لماذا لا أحاط علماً بما يجري؟ أليس الواجب أن أعلم كلّ صغيرة وكبيرة؟

أجاب نمتار مستكيناً:

- لكنّنا نعرف أنّ أشغالك كثيرة.

تنهّد آنو قائلاً:

- هذا صحيح، ولكن دعنا من هذا الهمّ، لقد أرسلت اليك لأسألك عن هذا الوافد الجديد الّذي أراه عند بابي. كيف وصل الى هنا؟ كيف اجتاز بوّابات الجحيم السبع  وخرج بكامل ملابسه؟ وأين حارس البوّابات نيتو؟ وهل رآه قضاة الجحيم؟ وكيف فلت منهم؟ ماهذا الهرج والمرج الّذي يحدث في العالم السّفليّ؟

شعر نمتار بالحرج وقال مداريا خجله:

- لا ادري ما أقول. حدث الأمر بسرعة، كان هذا يقود ثورة مسلّحة ضدّ الحكم في بلاده، فأصابه سهم، ويبدو أنّه نقل ثورته الأرضيّة الى هنا فهو يحمل لافتة عليها كتابات معارضة

كان غضب آنو شديداً:

- هنا؟ وماذا تنتظرون؟حتّى يقلب نظام الأنوناكي هنا؟ ليأتِ نركال حالاً إليّ ليعيده من حيث جاء فوراً

اضطرب نمتار وقال:

- سمعاً وطاعة، ولكن لو تسمح لي أن أسأل: كيف يمكن اعادته وقد سمع القاصي والدّاني بموته؟

- هل ضاقت البلاد؟ ليهبط باسمٍ جديد في أرض أخرى غير الوركاء. أريدو – نفر – كوثا – لارسا – أور

**

بعد أيّام من الهدوء سمع الاله آنو ضجّة خارج بابه فنادى حاجبه ليسأله الخبر لكنّ اله الجحيم نركال دخل مسرعاً دافعاً الحاجب على جانب وبادر الاله والغضب يغلي في داخله مثل مرجل نار:

- ماهذه المعاملة؟ انّي أحاول منذ الصّباح  الباكر الدّخول اليك والحاجب يمنعني

قال الاله:

- انّها أوامري

- لكنّي جئت في شأن خطير لايحتمل التأخير

- ماذا حدث؟

- اعفني من منصبي يا مولاي

- لماذا؟ ألم تكن أنت الّذي سعيت للمنصب بزواجك من أريشكيجال الهة الجحيم  والاستيلاء على عرشها؟

- حسناً، إذا كنت تريد أن تعرف فاعلم أنّي لا أريد أن يفرض عليّ البشر فرضاً. يجب أن يؤخذ رأيي في اختيار  أصحاب الجحيم ، وهاهم يدفعون اليّ كلّ من هبّ ودبّ

قال الإله انو:

- على مهلك، أخبرني بما حدث بالتّفصيل، يبدو أنّي هنا آخر من يعلم

التقط نركال أنفاسه وقال:

- هذا البشريّ الّذي أمرت أن أعيده الى الأرض. لقد جاء مرّة أخرى

- ألم أطلب منك أن ترسله الى أرض أخرى؟

- لقد فعلت يا مولاي. أرسلته الى بلاد في  مستقبل الزّمن الأرضيّ تسمّى الهند الصّينيّة وهي مكان لا يعرفه أحد، وكان كلّ ظنّي أنّنا لن نسمع عنه شيئا بعد ذلك، ولكن ما ان مضت بضعة أيّام حتّى عاد، دون علمي وعزّتك

- وكيف يكون ذلك؟

- أحرق نفسه احتجاجاً أمام سفارة أمريكيّة

ران الصّمت ، ثمّ انبرى نركال يقول:

- هل ترى يا مولاي؟ ماذا أفعل برجل أحرق نفسه دون أن يطرف له جفن؟ أيّ عذاب يمكن أن أضيف اليه؟ لن يكون لوجوده في جحيمي أيّ معنى. ثمّ ألا يكفني ما أنا فيه وما ألقاه من بعض أهل الجحيم؟ صاروا يأتون الينا بجلود مثل الفولاذ حتّى أنّي  أخشى أنّ علينا  أن نفكّر جدّيّاً يامولاي في تغيير بعض أساليب  العذاب.

قال الاله معاتباً:

- ألم اقل لكم في مجلس الانوناكي أن تقدّموا لي مقترحاتكم؟ انّي لا أقبل  أيّ تهاون في هذا الشّأن

- كنت أنوي أن أفعل ولكنّ اللّجان والأعمال الجانبيّة الأخرى لا تدع لي متّسعاً من الوقت ولكنّي أقترح الآن أن نرسل موفداً الى تحت للقيام بجولة اطّلاع وتدريب فقد سمعت أنّ أساليب الجحيم عندنا باتت قديمة وأنّها مثل لعب الأطفال مقارنة بالطّرق الحديثة المستخدمة عندهم

قال الإله:

- اقتراح وجيه. اختر واحداً تثق فيه ليقوم بهذه المهمّة

- سأحاول، ولو أنّي لا أعرف أحداً أثق فيه غيري. آخر من أرسلناه في مهمّة، طلب حقّ اللّجوء السّياسيّ لدى البشر

صاح الاله انو:

-       لا تجرَّ الحديث الى مسائل فرعيّة. اذهب الآن  وأعد المتمرّد الى الأرض حالاً

**

وهكذا ظلّ الرّجل ينتقل من أرض الى أخرى و من بلد الى آخر، ما ان يصعد الى السّمّاء حتّى يجد نفسه قد عاد الى الأرض من جديد حتّى لم تعد هناك ثورة لم يقدها، فصعد بإرادته الى الأعالي وانقطعت أخباره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*قاصة ومترجمة ومصورة عراقية تقيم في القاهرة

عرض مقالات: