اخر الاخبار

بعيدة، ودائمة الرفيف، نائية مثل غيمة صيف، كانت لحظة لقائي بالفقيد حازم خليل. ثمانينات القرن الماضي. قدمني إليه كاتب الأطفال طلال حسن. قبل تلك اللحظة، كنت أمر به كل يوم، في دكان قصابة الحاج عبد الله بباب لكش، وأميز شيئا مختلفا في شخصيته، ولغته، وطريقة تصرفه. ومذ ذاك صار لزاما علي التوقف عنده، وتبادل الأحاديث معه. في حكاياته، تاريخ خام لمنطقة باب الطوب، وسوق القصابين، والصوافة، والجوبة، وشارع حلب، تنطوي على مادة درامية هائلة، وشخصيات شعبية متمردة كعبو المحمد علي، كان حازم خليل ديوانا حيا لقصائد هذا الشاعر الكبير، وسيرته، وحكاياته، وقد سجل الكثير منها في مسرحية مخطوطة، وشخصيات أخرى تشكل جزءا من مشهد المدينة، أربعينات وخمسينات القرن الماضي، كسيد جكومي ومحمد طاهر البطل وحمدية أم البامية، أول امرأة موصلية تدخل صالات السينما، وشخصيات اشهر الشقاوات واللصوص والمجانين، يمكن أن تعثر على بعضها في أعماله المطبوعة والمخطوطة. عرفته قارئا شغوفا على نحو نادر المثال. أعرته مرة رواية المسيح يصلب من جديد لليوناني كازنتزاكي. أعادها إلي في اليوم التالي، مسجلا عليها ملاحظاته، وانطباعاته. لحظة أبديت دهشتي من السرعة، قال لي: ببساطة أنا لم أنم، شدتني الرواية إلى شخصياتها، بقيت أبحر فيها حتى الضفة الأخرى من الرواية، ومن الليل. لكن ذلك تكرر مع كل كتاب اقترحت عليه قراءته. كان يتمتع بموهبة القراءة السريعة. وذات صباح قدم لي رواياته، “فحل التوت”، مقترحا علي قراءتها. فوجئت فعلا بجمال العمل، ووفرة المادة الدرامية فيه. وعلاقتها المكانية بالمدينة، وشخصياتها، وتاريخها. صدرت بعد ذلك عن دار الشؤون الثقافية في بغداد. عندما يدور الحديث معه عن نماذج من أبطال الدراما والأساطير المشهورين في تاريخ الأدب الإنساني، يسارع حازم خليل معلقا أن لدينا في الموصل نماذج تتفوق عليها، ثم يأخذ في سرد حكايات شخصيات حقيقية عرفها عن كثب. كنت أحس أحيانا بالرعب من هول وغرابة تلك الحكايات، واشعر أن الموصل التي يتحدث عنها حازم هي غير الموصل التي عشتها وهي تمور وتفور وتطلق أوارها في كل اتجاه، مشكلة التاريخ الحقيقي لحياة المجتمع الموصلي، تاريخ مسربل بقصص العشق، والجنس، والدم،  والغيرة،  والحسد، والحب، والكراهية. تاريخ ينتج  كل يوم أساطيره الجميلة، في انتظار من يكتشفها، ويجليها، أو يعيد صياغتها. وهذا ما فعله حازم خليل، في كل أعماله.إذا كان لابد أن نبحث عن  وظيفة أو مشروعية أو محرض للكتابة عند حازم خليل سنجدها هنا، فهو يحوز على كم كبير من تلك الحكايات والقصص، وفي داخله تتساكن نماذج أسطورية  لرجال حقيقيين ونساء حقيقيات عاشوا بيننا من غير أن نتنبه إلى قيمتهم، وسحرهم، وأسطوريتهم. هنا اختار حازم خليل أن يشتغل، في هذه المنطقة الوعرة وقد تركت للخراب والنسيان، ليملأ هذا الفراغ الصارخ في ذاكرة المدينة، ويسهم في ترميمه. لذلك لا نرى في أعماله ميلا إلى إنشاء عمارات ذهنية أو بناءات لغوية ذات طبيعة شعرية وجمالية طاغية، ولا يفكر في تأسيس معادلات رمزية لأفكاره وآرائه، فهو لا يضع نصه أو فكره فوق نص الحياة كما يحدث في الأعمال الإيديولوجية، مثل جراح يعمد إلى التشريح في لحم الحياة الحي. إن كتاباته تعبق برائحة الدم، وتعثر على بعض بقعه متيبسة على صفحاتها، فهو يلتزم بوظيفة السارد، السارد لتاريخ المدينة الآخر، التاريخ غير المعترف به، غير المفكر به،  وغير المدون، المسكوت عنه من تاريخ المدينة،  لكنه بكل المعايير التاريخ الأكثر حميمية للحياة الاجتماعية فيها، التاريخ الذي يجعل المدونات الرسمية تبدو مثل متحف بائس للوقائع والأحداث المنتقاة وخزانة عتيقة الطراز مليئة بالثياب المزركشة والأقنعة الكاذبة والسير الزائفة. وحين تغري بعض أعماله بقراءات تأويلية ممكنة بما تنتجه من علاقات ومعادلات.

مشروع حازم خليل الروائي تجاوز 19 عملا تمثل بمجموعها رواية مختلفة لأحياء ومناطق مهمة من تاريخ المدينة، لكنه لم يصادف ما يستحق من اهتمام، ربما لأنه ظل يؤثر العمل الصامت الدؤوب الممتلئ على إثارة الصخب، والضجيج، وميله إلى البقاء في الظل، أو في الكواليس، أو ربما بين الجمهور، بعيدا عن شهرة الأضواء. إنه أسطورة موصلية يتعين علينا اكتشاف ما يعج في عالمها الدرامي من شخصيات.

عرض مقالات: