اخر الاخبار

في غياب الأصدقاء ممن كان في عمره، وجد حفيدي ذو السنوات الثلاث.. بي، أنا الجد المتقاعد، صديقا متيسرا في البيت على الدوام، لا يرد له طلبا، ولا يرفض له رغبة. يقف في الصباح إزائي مراقبا بنفاد صبر لحظة الفراغ من تناول فطوري، ليأخذني إلى غرفته. يقلب السلة الكبيرة التي تضم ثروته من الألعاب أمامي على الأرض: يللا نلعب. ثم يبدأ بتشييد عالمه وفق ما يتخيل، ويحلم. ينشيء عمارات من مكعبات. يؤسس مزارع، وأسواق. يبني مدنا، يشق فيها الطرق. هو المهندس، والمخطط، والمنفذ، في الآن نفسه. غالبا ما يقتصر دوري على المراقبة، والإنصات إلى إيقاعات تفكيره. ومحضه التشجيع والتأييد، في كل خطوة من خطوات اللعب. وحين تمتد جغرافية حلمه إلى مناطق ابعد في مخيلته، ولا يجد بين يديه من مستلزمات اللعب ما يسعفه على تحقيقه، لا يستسلم لأي نوع من العجز أو التوقف، إذ لا مكان للمستحيل في عالمه. فالأشياء التي لا تتوفر ضمن مقتنياته، يقوم بتخليقها. سواق للسيارات. غابات للحيوانات، سماوات للطيور، أنهار وبحيرات ومسابح، أسماك وقروش، وطواطم ووحوش، لصوص وشرطة وأصدقاء. اشهى الأطعمة، والأكلات. تصبح بكلمة منه، بمجرد أن ينطق باسمها بين يديه. اراقب حفيدي وهو يلعب، مفكرا بما يفعله بالعالم من حوله. وكيف تتسع هذه الغرفة الصغيرة إلى كينونته غير المحدودة. في تلك اللحظات أشعر أن في هذا الكائن الصغير من القدرة على الخلق ما يفوق اي تصور مسبق عن الطفل والطفولة. كل شيء يبدأ بالطفولة، حتى الأحلام، بل الأحلام خصوصا. الحاجة إلى الحلم، هي حاجة إلى الخلق. ويبدو أن كل ما يفعله الفنانون، والكتاب، والمخترعون، لا يعدو بأي شكل من الأشكال ذلك. إنها الرغبة العميقة في اللعب، وتجاوز حالة البؤس في واقعنا، والحاجة إلى توسيع نطاق عالمنا، وكوكبنا عن طريق الأحلام. أنا نفسي أمارس كل يوم ذات اللعبة، مستخدما الكلمات بدل قطع المكعبات، محاولا خلق عوالم ومجرات وأحلام، يمكن أن تضم إلى عالمي أقاليم جميلة جديدة. حين ينتهي من تلك الألعاب الهادئة، يخرب في لحظة كل ما بناه، ويشرع بصنع أسلحة ومسدسات من مكعباته، يشن حروبا لا هوادة فيها ضد الحرامية. يطلق النار على كل زاوية في البيت مؤكدا أن ثمة حرامية. الحرامية في كل مكان. وهو لا يسعى الى الخلاص منهم، ربما لأن عالما بلا حرامية سيكون مملا، ومضجرا. هكذا يأخذني كل يوم برفقته في معارك حامية، وحروب لا نهاية لها. يَقتل العشرات ويُقتل عشرات المرات. لا معنى للموت في عالمه، ولا أية فكرة أو تصور يتصل بمفهوم الجثة، والقبر، والغياب الأبدي. يسقط أرضا ثم ينهض ثانية. ليواصل معاركه الحامية بلا هوادة ضد الحرامية. إنهم أبطال واحدة من لعباته الكثيرات. في ثقافتنا تمتد صورة الحرامي من مغارة علي بابا، إلى غابة روبن هود، حتى براعة أمين الأوتجي، لص موصلي بارع، متخصص بسرقة الأثرياء، وتوزيع سرقاته على فقراء المدينة. وهي غالبا ما تشير إلى نبل دوافعهم، في مجتمعات تعاني لوعات العوز، وبشاعة الفقر. كانت قصص الحرامية، تتردد في حكاياتنا، وتتداولها الألسن، حتى باتت جزءا من بنية الحكي، وواحدة من لعبات الأطفال. أتساءل بيني وبين نفسي. ألم يكن في المتسع اختيار ألعاب أخرى..؟ أقترح عليه لعبة البحث عن زهرة سحرية نادرة في غابة نائية، أو لعبة إنقاذ طائر جميل وقع في شبكة صياد غادر، أو، أو، نلعبها معا، لكنه سرعان ما يشعر بالسأم، عائدا إلى حربه المقدسة على الحرامية. في لعبة الحرامية ثمة قدر من  الحيوية والجاذبية والعنف والسحر. أراقبه وهو يمارس لعبه بحرية كاملة، حرية مطلقة لا مكانة فيها للخوف أو التحسب أو القلق. إن عالمه مكتف بذاته تماما، ليست به حاجة إلى أحد غير أمه، وما ينقصه من أشياء واصدقاء بوسعه خلقهم بإرادته ومخيلته. لا شيء يمكن أن يحد من إندفاعه. كما أنه لا ينتظر من وراء لعبه اية منفعة مادية، أو معنوية، غير المسرة الناتجة عن حاجته لإشباع غريزة الخلق فيه، وإيجاد عالم يحبه، ويعمل دوما على إتساعه. أفكر أنني حين أمارس الكتابة أكون بأمس الحاجة إلى تلك الحرية الطفلية لكي أتمكن من الإبداع. التحرر من الخوف، من الضيق، من العوز، من سلطة الآخرين، من رأي القراء، وضغط الواقع. وأن الكتابة تحتاج إلى شجاعة غير عادية، لكي تكون مبدعة، ومجددة. والمهم  أن في عالمه، ولعبه، وأحلامه لا مكانة للألم أو الموت أوالحزن أو المعاناة. إنه يعيش حالة أبدية جميلة، لا اثر فيها للقلق تجاه وهم اسمه المستقبل، أو التفكير بعذاب الآخرة، أو التعرض إلى جروح الأسئلة اليومية الناتئة. الطفل نوع من ملاك خالق، يكمن سر الله في مقلتيه. في العابه يصغر الكون، ويضيق الأبد. والطفولة حالة شعرية إبتكارية نقية وخالصة.

عرض مقالات: