تشكل عملية التنمية المستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية حاجة ضرورية للنهوض بمستقبل البلاد وتحقيق أهدافها المجتمعية وذلك لا يتحقق إلا بمعرفة التحديات التي تواجهها والتي تعرقل تحقيق التوازن في النظام الاقتصادي وتستنزف مواردها الطبيعية وفي ذات الوقت لا تراعى فيه العوامل البيئية وتمنع الاستفادة من طاقات الأجيال القادمة في توظيف تلك الموارد تحقيقا للتنمية المستدامة.
ومن الثابت أن عملية التنمية المستدامة لكي تحقق أهدافها لابد أن تنجز متطلبات مراحلها واشتراطاتها والتي تتمثل في مرحلتها الأولى نقل هذه العملية إلى عصر الصناعات والتقنيات النظيفة، أما في المرحلة الثانية فلابد من التأكيد على تحقيق استقرار النمو السكاني والحد من ظاهرة الهجرة إلى المدن منعا للاكتظاظ وما يترتب عليه من مخلفات ملوثة للبيئة، ولكي تتخطى مرحلتها الثالثة يتوجب جعل التنمية المستدامة سببا ثابتا لتطوير نوعية الحياة الإنسانية، وفي مرحلتها الرابعة تتمثل العملية بالإدارة المثلى للموارد الطبيعية والحصول على الحد الأقصى من منافع التنمية التي تشترط المحافظة على الموارد الطبيعية ونوعيتها.
والجدير بالإشارة في هذا المقال أن عملية التنمية المستدامة في العراق وخاصة بعد الاحتلال في عام 2003 تواجه طائفة من التحديات قادت إلى فشل الخطط الاستراتيجية الخمس التي أصدرتها وزارة التخطيط والجهات الساندة، والتي يمكن تلخيصها في أولا طبيعة النظام السياسي وقواه المحركة التي لم تأخذ في الحسبان معاني التخطيط الهادف إلى انعاش الاقتصاد الوطني فضلا عن تردي الإصلاح الإداري وسوء استخدام الموارد المالية وهدرها ولكنها تركز على مصالحها على حساب مصالح البلاد مما أسهمت في عرقلة نجاح تلك الخطط، وثانيا الفساد المالي والإداري الذي فتح بوابة الاستحواذ على التخصيصات المرصودة لأغراض التنمية، وثالثا استمرار الطبيعة الريعية واستحواذ القطاع النفطي على الحصة الأكبر في تكوين الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 67 في المائة قياسا بالقطاعات الاقتصادية الأخرى المكونة للاقتصاد الكلي مع ما يرافق ذلك من انهيار القطاع الصناعي والصناعة التحويلية خصوصا، وضعف الصناعات الزراعية مع ما يترتب على هذه الطبيعة كآثار مباشرة على تنامي ظاهرة الفساد وخلق طبقة زبائنية للجهاز البيروقراطي الملازم للقوى السياسية المهيمنة على السلطة والمال، ورابعا الاختلال الكبير في بنية الاقتصاد وتفكك وانهيار بناه التحتية، وخامس هذه التحديات ضعف التراكم الرأسمالي وبالتالي هبوط معدلات النمو الاقتصادي، وسادسا عدم كفاءة وفعاليات السياسة الاقتصادية فضلا عن تشوه السوق العراقية وغياب قدرتها التنافسية في السوق العالمية.
إلا أن الخطط التنموية لا يمكن النظر اليها بوصفها مجموعة أرقام وتصورات تخمينية تفتقر إلى اليقينية إلا إذا كان المقصود افشال هذه المنهجية التي سار عليها العديد من البلدان ليس فقط بلدان ما يطلق عليها البلدان النامية او المتخلفة. وحتى الدول الاوربية التي ذاقت مرارة الحرب العالمية الثانية وتبعاتها الكارثية لم تستطع اعادة بناء اقتصادها إلا عبر خطط تنموية وتدخل مباشر من الحكومة، فمثل هذه الخطط تتطلب توفر عوامل نجاحها في أول لمسات الخطة وإثناء التنفيذ، ولابد أن يكون واضعو الخطة قد أخذوا بالاعتبار هذه العوامل من أجل تحقيق أهدافها، و إلا كيف لنا أن نفسر ما ورد في الخطة الخمسية للأعوام 2013—2017 على سبيل المثال ما نصه(إن وضع خطط تنموية يتطلب مستوى عال من الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي وهذا شرط افتقدته إلى درجة ما عملية اعداد هذه الخطة، مما يجعل فرص ترجمتها بنجاح إلى أرض الواقع يكتنفه عدم اليقين ).
إن مواجهة هذه التحديات باتجاه بناء عملية تنموية ناجحة تستلزم وجود قيادات سياسية واقتصادية تكون على درجة عالية من الخبرة في استشراف المستقبل عبر تصميم خطط مبنية على توافر البيانات الضرورية ليس فقط في النواحي الاقتصادية وانما وهذا مهم جدا توافر الإحصاءات السكانية العامة التي تشكل الحجر الأساس لأية خطط تنموية بنيوية محكمة من أجل تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني والعدالة الاجتماعية مدعوما من قطاعات شعبية عريضة كانت خارج إطار الانشطة التوزيعية.