اخر الاخبار

كلما جرى الحديث عن المواقف التي تتخذها حكومات الغرب من قضايا تحرر الشعوب أو تأمين العدالة أو ضمان حقوق الإنسان وفي مقدمتها حقه في الحياة، يجري اتهامها بازدواجية المعايير، في مؤشر على عدم التمييز بين الجوهر الاستغلالي البشع للرأسمالية ومركزة الثروة في يد أقلية صغيرة وحرمان الشغيلة من حصتها من الدخل القومي واغراقها في أوحال الفقر والاغتراب، وبين قيم سادت إثر انتصار البرجوازية على الإقطاع، قبل أن تسارع للتخلي عنها، بانتهاء دورها التاريخي ودخولها في صراع تناحري مع ذات القيم الإنسانية السامية.

ولم يكن هذا التخلي عن تلك القيم، بشكل جزئي أو كلي، نتاجاً لمتغيرات القرن الحالي أو الذي سبقه، بل فعلاً لجأت إليه البرجوازية في جميع الفترات التاريخية التي تميزت بتهديد حقيقي لهيمنتها الطبقية. وترينا صفحات التاريخ أمثلة لا حصر لها، ففي عام 1885 ربط الرأسماليون الألمان عشرات الآلاف من قبائل الهيريرو والناما بالسلاسل وأحرقوهم لأنهم أرادوا أن يعيشوا في غاباتهم بسلام. كما قاموا في الثلاثينيات من القرن الماضي بحرق ملايين اليهود في أفران الغاز، دون أن ينسوا لبس القفازات عند غلق أبواب الأفران، كي لا تتلوث اصابعهم بالسخام، فيما كان حلفاؤهم الطليان جذلين بقتل نصف مليون إثيوبي و80 ألف ليبي. وفي 1945 ألقى الرأسماليون الفرنسيون 41 طناً من القنابل على مظاهرات الجزائريين السلمية فقتلوا 45000 إنسان منهم بدم بارد، ليلتحقوا بستة آلاف مغربي و30 ألف تشادي وعشرات الآلاف من الفيتناميين وغيرهم ممن ماتوا، دون أن يطأطئوا رؤوسهم، تماماً كما أراد مؤلف نشيد لامارسييز. ولعلي لا أجد أحداً يبحث عن دليل على بشاعة رأسماليي الولايات المتحدة، سواء في إبادتهم لسكان أمريكا واستراليا ونيوزيلندا الأصليين، أو في جرائمهم بجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.

ولهذا كله، يبدو الحديث عن وجود ازدواجية في المعايير، شيئاً من الهرطقة، حيث كان هناك دوماً معيار بشع واحد، تمكّنت البرجوازية بفضل ديماغوجيتها وقدراتها على التكيف وعلى التقدم والتراجع في الوقت المناسب، من التعتيم عليه. إلاّ أن اضطرارها لتقسيم الأدوار بين كتلها المتنوعة والمتداخلة، وسيادة الليبرالية الجديدة على أغلب أنظمتها، قد فضح الكثير من تحولها الناعم والأنيق نحو الفاشية من جديد، وإن بصعوبة وبولادة متعسرة.

ولعل من أبرز تجليات ذلك، رفض اليمين المتطرف (اقرأ الفاشي) أية سيادة للشعب على الحياة السياسية والاقتصادية، وعزله المفكرين والعلماء، من المختلفين معه، والدعوة لقوانين تقضم تدريجياً الحريات، وتعبئة كل وسائل الاتصال والدعاية لتعميم أفكار محددة و «اقناع» الناس بها، حتى يصبح مجرد التساؤل عنها ناهيك عن انتقادها، خروجاً عن إجماع الأمة، يرافق ذلك تمجيد أكبر للمصلحة الفردية ولسعار المنافسة، وتسفيه مبرمج لأفكار التضامن والمساواة والإيثار والتعاون، إلى الحد الذي يمكن أن يكون العنف ضد البشر «المتخلفين»، جزءًا من الحق المقدس للبشر «المتحضرين»، وتكون محاكمة وإدانة الناس على معتقداتهم وأعراقهم، أمراً طبيعياً لمواجهة خطر أعداء وهميين أو خصوم حقيقيين.

ولهذا، لا يبدو غريباً اليوم، في ظل صعود هذه الفاشية الأنيقة، أن يُمنع في الغرب عرض باليه بحيرة البجع وأن تُسحب من رفوف المكتبات العامة روايات دوستويفسكي ومسرحيات تشيكوف «احتجاجاً» على حرب بوتين في أوكرانيا، أو أن تشترط المانيا، الاعتراف الخطي بحق إسرائيل في الوجود، لمن يريد أن يحصل على جنسيتها، أو أن يكون مقتل رهينة إسرائيلية مأساة لا تحتمل لدى بايدن، فيما يكون مقتل 5500 طفل في غزة، مجرد مسعى للقضاء على الإرهاب.

إن رأس المال الذي ولد وهو يقطر دماً وقذارة، من رأسه وحتى أخمص قدميه، على حد تعبير ماركس، يبقى لا يتغير حتى يُّقبر، سواء أكان وجهه بشعاً أم انيقاً.

عرض مقالات: