اخر الاخبار

لم يبقَ من حوالي 300 شجرة معمرة في شارع الكرادة - داخل ببغداد، لحظة اعداد هذا التقرير في أواخر تشرين الأول 2023، سوى 166 شجرة. والظاهر ان وزارة الاعمار والإسكان وأمانة بغداد تعملان بشركاتهما الاستثمارية وبجهود متواصلة، لقطع البقية الباقية من هذه الأشجار الممتدة على جانبي الشارع حتى الجسر المعلق، والتي يقارب عمر بعضها 60 عاما.

ويعود السبب المعلن لـقطع هذه الاشجار ذات الخضرة اليانعة رغم طول اعمارها، الى “عرقلتها تنفيذ مشروع توسيع الشارع”.

ومع المباشرة بأعمال المشروع و”ذبح” أولى الأشجار أواخر الصيف الماضي، ارتفعت في مواقع التواصل الاجتماعي اصوات كثيرين من أهالي المنطقة ومن أصحاب المحال التجارية والناشطين، احتجاجا على “سحب الأرصفة من تحت اقدام المارة ومنحها الى المركبات” وسخطا على قطع الأشجار التي وصفوها بأنها “جزء من روح منطقة الكرادة”.

وردا على ذلك وعدت الأمانة والوزارة بغرس شتلات بديلة على رصيفي الشارع وفي جزرته الوسطية. الا ان مختصين يرون ان “احتمال نمو هذه البدائل ضعيف نظرا لكونها تغرس في بيئة غير مواتية، تعاني من التلوث الشديد الناجم عن عوادم السيارات”.

 ماذا يقول الناس؟

المواطنون من سكنة المنطقة، ومن اصحاب المحال التجارية والدكاكين على امتداد الشارع، استقبلوا اعمال تنفيذ مشروع توسيع الشارع وتحديثه بمشاعر ومواقف متباينة. فالى جانب من رحبوا بالتوسيع “رغم كل شيء” كسبيل للحد من الزحام الشديد وكثافة حركة السيارات ولجعل الشارع فسيحا نفها” حسب قولهم، وبجانب غيرهم ممن يشغل الصراع اليومي من اجل تأمين لقمة الخبز كل تفكيرهم واهتمامهم، فلا تستهويهم نقاشات “البطرانين” حول توسعة الشارع وأولويات البيئة، هناك من يسترعي الامر انتباههم حقا واهتمامهم فيعبّرون عن عدم ارتياح وحتى غضب على ما تشهده الكرادة – داخل.

المواطن حسن مؤيد، وهو صاحب محل تجاري في الكرادة – داخل، يرى ان إجراءات امانة بغداد “غير مدروسة”، وانها “بدل المحافظة على طابع المنطقة التراثي وهويتها تشوه معالمها”.

ويقول مؤيد لـ”طريق الشعب” مستطردا ان “امانة بغداد تواصل تنفيذ إجراءاتها على الرغم من المعارضة الواسعة لاهالي المنطقة، ممن ترتبط ذكرياتهم بامور كثيرة منها تلك الأشجار، التي جاءت “منشارات” البلدية “فقطّعتها وأحالتها حطبا”.

ويضيف انه طالما اعتنى على مدار ثلاثة عقود بتقليم وسقي الشجرة النامية عند باب محله في الشارع، حيث كان المارة والمتبضعون يتمتعون بظلالها الوارفة ومنظرها الجميل.

ثم يضحك بمرارة وهو يشير الى ان موظفي البلدية استبدلوا تلك الشجرة المعمرة بشُجيرة هزيلة “لم تعش سوى ايام معدودات”.

اما المواطن علي فلاح من سكان المنطقة ذاتها، فيلاحظ ان امانة بغداد غرست شجيرات كثيرة، لكن عديدا من تلك الشجيرات لم تجد رعاية أو اهتماما بعد ذلك.

 تقصير حكومي

من طرفها تقول مديرة مشروع “زراعة مليون ونصف المليون شجرة” في وزارة التعليم العالي د. افاق إبراهيم، ان “البلاد تمر بظروف بيئية صعبة، وان الأشجار في منطقة الكرادة - داخل المعمرة، التي ازيلت أو التي ستتم ازالتها، طالما لعبت دورا هاما في امتصاص وتخزين كميات كبيرة من الكاربون، وتعويضه بالاوكسجين النقي”.

وتعقيبا على إجراءات امانة بغداد بإعادة زراعة الشتلات من نفس نوعية الأشجار التي تتم ازالتها، تشير د. إبراهيم في تصريح لـ “طريق الشعب” الى ان “الأشجار المعمرة في منطقة الكرادة تتجاوز اعمارها 60 عاما، وقد نمت في ظروف بيئية مختلفة”، موضحة ان “نسب التلوث المنبعث اليوم من المركبات تبلغ اضعاف ما كانت عليه في السابق”.

وترى د. إبراهيم ان “احتمال تلف الشتلات التي تم غرسها عوضا عن الأشجار المعمرة كبير جدا، خاصة وان هناك تقصيرا في توفير آليات السقي المنتظم، وتراجعا في كميات المياه الجوفية، وارتفاعا في نسب التلوث”.

 جرائم بيئية كبيرة

من جانبه أفاد مدير شرطة حماية البيئة المقدم مصطفى عبد الحسن ان “وزارة الاعمار والإسكان وامانة بغداد نفذتا حملة قطع الأشجار في منطقة الكرادة داخل،  دون العودة الى الجهات المختصة ومناقشة الأمر معها”.

وقال عبد الحسن لـ”طريق الشعب” ان “ما يجري في منطقة الكرادة داخل يشكل مخالفة لقانون حماية البيئة، وتترتب عليه غرامات مالية”.

وأكد أنهم اقترحوا على وزارة الاعمار والإسكان وامانة بغداد العمل على نقل الأشجار لغرسها في مكان آخر بدلا من قطعها، لكن الرد الذي تلقوه كما قال “يفيد بان هناك موافقة رسمية من رئيس الوزراء، وان الأشجار التي قطعت سيتم تعويضها باشجار أخرى”.

وواصل عبد الحسن يقول ان قانون حماية البيئة “بحاجة الى تعديلات، خاصة في مجال تشديد العقوبات، حيث أن اغلب الانتهاكات البيئية ترتكب من قبل جهات حكومية، يصعب ردعها” على حد قوله.

وبخصوص التأثير البيئي بيّن ان “العراق يحتل المرتبة الخامسة عالميا في المخالفات البيئية، وان إجراءات توسعة الطرق على الرغم من أهميتها الا انها تجري على حساب أشجار معمرة، تصنف الواحدة منها بانها معمل يعمل بكامل طاقته على خزن الكاربون المضر بصحة الإنسان، وينتج بدلا منه الاوكسجين”.

وحول اعداد الأشجار التي تمت ازالتها في شارع الكرادة داخل، افاد انهم لا يمتلكون احصائية دقيقة، الا ان “وزارة الاعمار والإسكان تشير الى ازالة 189 شجرة في عموم المشاريع الاستثمارية التي تم تنفيذها في العاصمة بغداد حتى الان. وهذا يتناقض مع واقع الحال” حسب قوله.

 الجهات المعنية لا تعلم!

مسؤول شعبة الأراضي الزراعية في مديرية بيئة بغداد محمد أمجد، قال لـ “طريق الشعب”: “لا علم لنا بإجراءات امانة بغداد بخصوص قطع الأشجار في منطقة الكرادة داخل”، واوضح ان الامانة لم تفاتح مديريته بشأن مشروع التأهيل والتوسعة، بينما وصلت مراحل التنفيذ الى نسب ملحوظة.

وارتباطا باتصال جريدتنا معه قال ان دائرته ستوجه كتب استفسار الى وزارة الاعمار وامانة بغداد، وبيّن انه في حال تأخر الرد “سنتوجه الى مشاورنا القانوني للنظر في إقامة دعوى قضائية ضد الجهات المذكورة”.

 نفي حكومي

من طرفه نفى مدير بلدية الكرادة جاسم محمد موت الشتلات الزراعية التي غرست أخيرا في شارع الكرادة داخل، كما أكد أن حملة التشجير فيه مستمرة دون توقف.

وقال محمد لـ”طريق الشعب”، إن “بلدية الكرادة حرصت على غرس أشجار (البيزيا) نظرا لتحمّلها ظروفنا البيئية الراهنة، الى جانب امكانية نموها سريعا”.

وكرر مدير البلدية ان موظفي دائرته لم يلحظوا تلف أية شتلة من الشتلات الجديدة، مردفا ان تساقط أوراقها كان بسبب موسم الخريف، وانها ستعاود النمو ربيعا.

وحول عدد الأشجار المعمرة التي تمت ازالتها حتى الان في منطقة الكرادة داخل، قال أن عددها لا يزيد على 17 شجرة، في حين تم غرس 54 شجرة بديلة ضمن مشروع إعادة تأهيل شارع المنطقة، الذي يمتد من ساحة كهرمانة وصولا الى الجسر المعلق.

وادعى مدير البلدية أن الاشجار التي تم قطعها “مضرة بالبيئة وبالبنى التحتية للمنطقة”!

ولفت الانتباه في هذا التصريح الفارق الكبير بين عدد الاشجار (17 شجرة) التي اشار الى انها ازيلت حتى الآن من جانبي شارع الكرادة – داخل، وعددها الذي اوردته مصادر اخرى (اكثر من 130 شجرة) عبر منابرها الاعلامية ولم يصدر نفي لصحته من جهات رسمية.

دعوى قضائية، ولكن..

في المقابل انتقدت عضو مجلس النواب سابقا شروق العبايجي اجراءات امانة بغداد قائلة: “ ان الأشجار المعمرة في منطقة الكرادة داخل لن يتم تعويضها بعد مائة سنة”.

ووجهت العبايجي عتبا شديدا الى وزارة الاعمار والاسكان وامانة بغداد، وتساءلت: “كيف ستتمكن اشجاركم الجديدة من الصمود في زمن يشهد ارتفاعا كبيرا في درجات الحرارة، وفي ظل الجفاف الحاد، الذي يرافقه سوء ادارة في كل شيء؟”.

وقالت العبايجي ان “ما تقوم به امانة بغداد، من ملف النفايات إلى مشاكل التشويه العمراني والحضري للمدن وغيرهما، يكشف تخبطات العمل المتواصلة وغير المسؤولة”.

ونوّهت الى أنها حاولت، بالتزامن مع بدء تنفيذ مشروع تأهيل منطقة الكرادة ـ داخل  رفع دعوى قضائية ضد امانة بغداد، الا انها صُدمت بوجود قانون يسمح للامانة بقطع الأشجار التي يتعارض وجودها مع مشاريع العمران وإعادة التأهيل.

وتعوّل العبايجي على منظمات المجتمع المدني والقوى الوطنية في ايقاف هذه الانتهاكات البيئية، التي تمارسها امانة بغداد ووزارة الاعمار والإسكان دون الرجوع الى المختصين.

 ضعف الوعي القانوني

وتوضيحا للملابسات القانونية للقضية، قال المحامي حيان الخياط في حديث مع “طريق الشعب” ان “قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009 منع ـ في مادته الرقم 18 ـ قطع الأشجار المعمرة، التي يتجاوز عمرها 30 عاما، دون موافقةٍ من رئيس مجلس حماية وتحسين البيئة”. واستطرد مضيفا ان قانون العقوبات نص على عقوبة الحبس مدة لا تقل عن ثلاثة اشهر وغرامة مالية لا تقل عن 10 ملايين ولا تزيد على 20 مليون دينار، على من يخالف التعليمات القانونية.

ويلاحظ الخياط ان “المجتمع بصورة عامة يعاني من تراجع كبير في ثقافة رفع الدعاوى القانونية ضد المخالفين، وان من الضروري ان تتبنى منظمات المجتمع المدني حملات توعية بهذا الشأن، فضلا عن المبادرة الى رفع شكاوى قانونية ضد  الانتهاكات”.

 لا رد من وكيل الوزارة

وفي السياق حاولت “طريق الشعب” الاتصال برئيس مجلس حماية البيئة ووكيل وزارة البيئة جاسم الفلاحي ، الا انه لم يرد رغم تكرار الاتصال الهاتفي، كما تجاهل الطلبات المكتوبة الموجهة اليه.

 انتهاكات كبيرة

هذا وقالت رئيسة شبكة “صحفيات من اجل المناخ” د. خلود العامري ان هناك “انتهاكات كبيرة تقوم بها السلطات في اغلب المشاريع الاستثمارية، وان اغلبها يؤثر سلبا على الاوضاع البيئية”.

وبيّنت العامري لـ “طريق الشعب” انه “على الرغم من التحذيرات السابقة لخبراء البيئة من مضار زراعة أشجار الكينو كابرس المضرة بالبنى التحتية، الا ان الجهات الحكومية أصرت على تنفيذ إجراءاتها وغرسها”. الا ان هذه الجهات كما قالت مضيفة، عادت “ بعد انفاق مبالغ مالية كبيرة ووجهت بإزالتها للاسباب نفسها التي طرحها الخبراء”.  ولفتت الى “ان هناك تخبطات كبيرة في عملية التشجير التي تتبناها الجهات الحكومية بصورة عامة”.

وتؤشر العامري وجود تضارب في القوانين. فعلى رغم التوجه المعلن نحو زيادة المساحات الخضراء ومنع قطع الأشجار، خاصة في الأماكن العامة “ فان قانون الاستثمار يسمح للمستثمرين بزراعة 50 مترا مربعا فقط، مقابل البناء في مساحة 2000 متر، ما يشكل خللا كبيرا”.

وتخلص د. خلود العامري الى القول ان “قطع الأشجار المعمرة في منطقة الكرادة داخل يعني خسارة بيئية لا يمكن تعويضها بسهولة؛ لا سيما وان جميع البدائل التي تتحدث عنها امانة بغداد تنفذ بآليات غير مدروسة”.

 كفى قطعا للاشجار

ولا تنتهي القصة عند هذا الحد. فما انجز تماما من مشروع توسيع شارع الكرادة – داخل حتى الآن هو مرحلته الاولى فقط، الممتدة من ساحة كهرمانة حتى قرب مقهى “قهوة وكتاب”. وفي اثناء هذا تتقدم أعمال التوسيع ومد مزيد من الارصفة الجديدة، لا سيما وان عملية “تنظيف” جانبي الشارع من الوجبة الثانية من الاشجارالمعمرة منجزة وكاملة.

وقد تجاوزت الاعمال الآن محطة وقود “ابو قلام” لتقترب من المحلين التجاريين الكبيرين “دايموند مول” و”ماكسيمول”. واعتبارا من هذين المحلين ينتظر ان تنطلق مرحلة اخرى من المشروع، تبدأ مثل المرحلتين السابقتين بـ “مجزرة” جديدة لصفين من الاشجار، يمتدان على جانبي الشارع بكثافة متباينة، مرورا بالتقاطع الوحيد في الكرادة – داخل، والذي يتفرع منه شارع العطار، ثم يستمران في اتجاه الجادرية.

والسؤال المطروح يخص المصير الذي ينتظر هذه المجموعة الكبيرة من الاشجار العالية بمعظمها والجميلة، التي من المقرر حسب الدلائل ان تساق الى الذبح مثل سابقاتها. وهي التي يقول خبراء البيئة ان كلا منها تعتبر معملا كاملا لامتصاص ثاني اوكسيد الكاربون واطلاق الاوكسجين.

 فالخاسر الاكبر بالتالي هم ناس الكرادة وبغداد عموما، الذين تتدهور بذلك بيئتهم وظروف عيشهم وصحتهم، في وقت تشتد فيه حاجتهم الى البيئة الصحية والحد من التلوث الخطير المتفاقم.

عرض مقالات: