اخر الاخبار

بثياب متهرئة، يتحرك الأطفال بسرعة كبيرة لنقل الطابوق ورصفه بعد خروجه من المعمل. لم يذُق هؤلاء الذين لا تتجاوز أعمارهم عشر سنوات طعمَ الطفولة، بل أن قسوة الحياة وظروف العيش دفعت بهم وبأهاليهم الى تلك النيران، ليجدوا أنفسهم أمام مهمة تحتاج الى قوة جسدية وطاقة تحمل عالية. هكذا هم يحاولون الصمود، وسط الدخان وأكوام النفايات والاكواخ التي يعيشون بها.

كانت جريدة «طريق الشعب»، قد وثقت ذلك المشهد خلال جولة ميدانية لمراسلها داخل معامل الطابوق في منطقة النهروان، رفقة أعضاء من اتحاد نقابات العمال، لرصد الانتهاكات التي تطال الطبقة العاملة، وتوعية العمال بحقوقهم وواجباتهم، بالإضافة الى توثيق حالات الانتهاك التي تطال الأطفال، ونقل طموح العمال بالحصول على استحقاقات مادية ومعنوية، تمكنهم من ديمومة العمل المضمون بقانون يحمي حقوقهم.

عند الدخول لمنطقة النهروان، سيكون أول مشهد يسحب نظرك اليه هو أعمدة الدخان الأسود المتصاعدة من معامل الطابوق.

ووفقا لوزارة البيئة، فان النهروان تضم أكثر من 360 معملاً لإنتاج الطوب. فيما تشير أرقام أخرى الى وجود 800 معمل.

عائلة كاملة تعمل بـ30 ألفا

وتحدث مهدي البالغ من العمر 8 أعوام لـ «طريق الشعب» عن عمله في أحد معامل الطابوق، وهو ينظر إلى يديه الصغيرتين التي تحولتا إلى اللون الأسود بفعل العمل هو وأخوانه على تنظيف الفرن، بعد الانتهاء من انتاج كل وجبة طابوق.

ويشير مهدي الى أن والديه أيضًا يمارسان العمل عينه، وبأجر لا يتجاوز ٣٥٠ الف دينار شهريا لجميع أفراد عائلته.

يبدو مهدي وأخوته الذين يصغرونه عمرا لا يعرفون شيئا عن الدراسة والمدرسة ولا الترفيه، كل ما يهمهم هو تنظيف أرض الأفران والذهاب الى الأكواخ المتهالكة التي يعيشون بها، من أجل الراحة.

وبعد التجول بين أماكن سكنهم القريبة من أفران الطابوق، وبجوارهم تتراكم النفايات، وجدنا ثلاث فتيات يجلسن بجوار جدار الفرن على بعد مترين من باب منزلهن. تقول إحداهن: إنها انتهت من عملها منذ ساعة، وهي جالسة لتستريح مع أخواتها.

يبدأ عمل هؤلاء الفتيات من الساعة 12 ليلاً وحتى التاسعة صباحاً، في شهر رمضان.

أطفال لا يعرفون معنىً للطفولة

تقول الطفلة شفاء لمراسل «طريق الشعب»، إنها تعمل مع والديها في صناعة الطابوق، ومهمتها تتمثل بتعبئة القوالب، ويكون العمل بمدى ساعتين متواصلتين، وبعدهما تكون لديها استراحة لساعتين أيضا.

شفاء وشقيقاتها وبقية اقرانهم من الأطفال، يتلقون أجورا ضئيلة، ولا يعرفون شيئاً عن الطفولة واللعب. فلم تتقبل شقيقة شفاء أن تأخذ لعبة الدمية، لأنها تجهل ماذا تفعل بها!

إجراءات السلامة

ما يلاحظ في تلك المعامل، أن إجراءات السلامة المهنية للعمال، أطفالًا أو نساءً أو رجالًا، لا وجود لها؛ حيث تعمل النساء وهن يرتدين العباءة العراقية. بينما يرتدي الأطفال ملابس متهرئة، ما يعرضهم لخطر الاحتراق والاصابة بجروح خطرة.

يقول أحمد، وهو أحد العمال، وجدناه مستلقيا على مسطح مصنوع من الإسمنت في غرفة الصيدلية، بسبب إصابته في قدمه قبل أسبوعين، إنه قدم من محافظة ديالى للعمل في معامل الطابوق «العمل شحيح جدا في المحافظة».

ويضيف أحمد لـ»طريق الشعب»، أنه لا يستطيع أخذ إجازة من العمل حتى لو كان مصاباً، خوفاً من أن يُطرده صاحب المعمل أو يستقطع راتبه. لذا يضطر للتوجه إلى الصيدلية خلال كل استراحة لتلقي العلاج اللازم (اخذ المغذي)، بحسب نصيحة الصيدلاني الذي يتلقى العلاج عنده.

ويشير الى أنه منذ سنوات يعمل في معامل الطابوق، «العديد من الأشخاص وُلدوا ونشأوا في هذه البيئة، فوجدوا أنفسهم وسط تلك المعامل التي لم يغادروها يوما».

ويلفت أحمد الى أن «صناعة الطابوق تشهد تراجعاً بسبب ارتفاع أسعار المواد الأولية وارتفاع أسعار الوقود، إضافة إلى دخول الطابوق المستورد الذي ينافس الطابوق المحلي».

ويأمل أحمد ورفاقه من العاملين أن يكون هناك تدخل للجهات المعنية بفرض أجور عمل تناسب ما يقدمونه من خدمات «نشعر بأننا مهمشون لكثرة المناشدات والاحتجاجات التي نظمناها، و لم يسمعنا احد».

وينبه العامل أحمد الى ان أرباب يستغلون حاجة الشباب للأجر، ما يجعلهم يتمادون على حقوقهم ويستغلونهم بأبشع الصور «غالبيتنا نعمل دون ضمانات اجتماعية او صحية».

بدوره، يقول حسين محمود، صاحب معمل، إن «الحكومة لا تدعم معاملنا»، مضيفاً أنها تحرص على أخذ الضرائب من أصحاب العمل، مثل ضريبة المقالع، ومبالغ الضمان الاجتماعي للعمال، والرسومات، لكنها لا تقدم أي دعم لنا.

 ويضيف، أن «المنطقة بحاجة إلى شوارع ومركز صحي وخدمات، بينما لا تعمل الدولة على توفيرها».

إهمال حكومي

تقول عضو المكتب التنفيذي في اتحاد نقابات عمال العراق، كوريا رياح: إن «واقع العامل العراقي يتراجع بشكل كبير في ظل تدهور الواقع الصناعي وتدمير البنى التحتية للمصانع والمعامل وغياب شبه تام للمحفزات التي تدعم القطاع الخاص وتشجع الشباب على العمل»، مؤكدة ان «العمال ما زالوا يبحثون عن قوانين تنصف مجهودهم وترفع الحيف عنهم».

وتضيف رياح في حديث مع «طريق الشعب»، ان «هذه الجولة رقم 12 التي ينظمها الاتحاد لزيارة معامل الطابوق، من أجل تقديم المساعدات الغذائية والطبية وتوعيتهم بحقوقهم، ونقل مطالبهم الى الجهات المعنية».

وتشير إلى أن «اغلب العمال في تلك المعامل يعانون سوء التغذية والإرهاق، ويُجبرون على العمل لساعات طويلة تتجاوز الـ 12 ساعة بأجور بخسة جداً».

وتلفت الى أن هناك غيابا تاما لإجراءات السلامة المهنية، وتحديداً تلك التي تحمي الأطفال والنساء الذين يعملون في أعمال خطرة للغاية، مشيرة الى أن بعض الاصابات تصل بضحاياها الى الوفاة، وهذا ما حصل لفتاة صغيرة، سقطت داخل احد افران الطابوق، بالإضافة الى وجود حالات حروق وامراض جلدية نتيجة لعدم وجود ماء صالح للشرب.

استجابة خجولة لمناشدات الاتحاد

وتؤشر المتحدثة النقابية تجاهلا ولا مبالاة لدى وزارة العمل في التعاطي مع عمال معامل الطابوق، الذين قدموا اليها الكثير من الشكاوى، لكنهم لم يلقوا ردودا مناسبة، مؤكدة ان الاتحاد قدم الكثير من الشكاوى الى رئيس الوزراء، والى وزارة البيئة، وقد تمت الاستجابة لها بصورة محدودة من قبل الطرفين.

وتتابع بالقول، «كثيرا من العمال الذين تلتقيهم لجان وزارة العمل والشؤون الاجتماعية يتلقون نصائح بالتقديم على الرعاية الاجتماعية وليس الضمان الاجتماعي، مبررين ذلك بأن راتب الرعاية يستحصل بصورة أسرع»، وهذا ما تعدّه رياح «أسلوبا لحماية الانتهاكات التي يمارسها أصحاب المعامل».

وتدعو رياح إلى تحرك فوري لإنقاذ العمّال وتحسين ظروفهم المعيشية، مؤكدة أن صمت المسؤولين يخلق مشكلات أعقد.