اخر الاخبار

ربما يتفق معي الكثير من أبناء جيلي - الجيل الذي جاء إلى الدنيا في عقد خمسينيات القرن الماضي، إن أول كلمة تفتح عليها وعينا في الحياة، ومن دون قصدية منا، أو إرادة من غيرنا، هي كلمة (شيوعي)، بجميع معانيها الواضحة والغامضة! كان لها إيقاع مثير في المسامع، ومتناقضة بترادف عجيب يضم جميع معاني الحياة، فهي: الخوف والسلام، الخطر والأمان، الأمل والياس، الصلابة والانهيار، الأيمان والتمرد.. هي الحرية بأوسع معانيها ، ولا يمكن لعقل غض ، وتفكير بسيط في مرحلة الطفولة والصبا ان يحسم  جميع  هذه المتناقضات المترادفة، غير اننا كنا نراها على هيئة صور، وانفعالات على وجوه الرجال والنساء، معارفنا من ذوي المعتقلين، والمطاردين، والمعدومين والمتخفين، حتى صار كل سجين سياسي او معدوم، او مطارد سياسي، هو بالضرورة شيوعي!، ربما تلك هي اللحظة الخفية، أقصد لحظة التعاطف مع كل هذا الوجع والألم الذي تعبر عنه هذه الاوصاف، التي جاءت بعد فترة انتعاش وصعود للحلم الشيوعي مقرونا بالواقع هو سنوات ما بعد ثورة 14 تموز 1958 ومنجزاتها المتمثلة في أروع ملموساتها في اصدار قانون الاصلاح الزراعي وانهاء سلطة الاقطاع، وبناء مدن عصرية لسكان تجمعات الصرائف، وهذه وغيرها اقترنت باسم الزعيم عبدالكريم قاسم الذي كان يلقبه البعض ب ( الزعيم الأحمر )، فكان قدر طفولتنا وتفتح وعينا نحن جيل مواليد الخمسينيات ، ان نعيش انتعاش الحلم وصعوده بجميع تغييراته للواقع البائس على أنغام مهرجانات احتفالية،  وأغان مجدت الأنسان والحرية والعمل، وتغزلت بالعامل والفلاح بشتى أنواع الإبداع من شعر وسرد ورسم وغناء ومسرح وسينما ، وفي لحظة مفاجئة انكسر هذا الحلم  بانقلاب شباط الأسود ـ فقد حل بدل ذلك، عويل وبكاء ودماء ودخان جرائم وفقدانات، وكأن انكسار الحلم أبقى على جذوره مستعرة في أعماقنا تلقائيا وليس بفعل فاعل، أو موعظة، أو دروس تربوي، او محاضرات ايديولوجية !. 

قد يكون هذا هو التفسير المنطقي لإصرار أحد الأصدقاء الذي التقيته قبل عام على القول: (التعاطف مع الشيوعيين هو قضية جينية بالنسبة لنا نحن أبناء هذا الجيل والاجيال المجاورة لنا، صار مثل القيم والعادات التي زرعتها بيئتنا في نفوسنا!).

أتذكر أن أمي اصطحبتني معها ذات يوم لمواساة قريبة لنا ضاع ابنها الوحيد في خضم الفوضى الدموية بعد انقلاب شباط 1963، كانت تسرد لأمي أخباره غير المؤكدة؛ وصل إلى الجبال في الشمال. عبر الحدود إلى إيران. يتخفى مع صيادي الأسماك ومربي الجاموس في الهور. مسجون في معتقلات خلف السدة أو معسكر الرشيد. وأرادت  أن  تكمل الاحتمالات بقول جملة أخرى، لكن لم يطاوعها لسانها بنطقها، واستبدلتها في الحال بقولها ( المهم يكون سالم ، بس لا ....)، ولم تكمل جملتها، فقد انخرطت بنشيج مقهور، قابلته أمي ببكاء كأنه كان ينتظر تحت جفنيها هذه الكلمات ليتدفق بحرارة!، أما أنا فقد رحت أجول على ما تبقى من أغراض الأبن الشيوعي المفقود في لجة الاحتمالات، وكأنني أراها لأول مرة، مشط بلاستيكي ملون، وعلبة فازلين أخضر معطر كان استعماله لدهن الشعر أحد أهم مستلزمات الإناقة في ذلك الوقت، منشفة حمراء معلقة على مسمار بارز تحت كسرة مرآة مثبتة على الحائط، لصقت في أعلاها صورة مقتطعة من صحيفة لعمال وفلاحين يحتفلون بعيد العمال العالمي، وصحف مصفوفة فوق علبة صفيح فارغة. بقيت على حالها مدة طويلة لا تقبل الأم ان يحركها أحد حتى يعود الابن الذي لم يعد حتى بعد أن كبرنا!

بقيت كل هذه الصور، والمشاهدات، والهواجس تتجدد في وعينا وذاكرتنا تلقائيا مثل نباتات برية  وهو ما دفع صديقي إلى الاعتقاد بالوجود الجيني للماركسية والشيوعية في تركيبتنا بصرف النظر عن وجود وعي من عدمه  !، ومع أني لم اعترض ، أو أوافق على هذا الاعتقاد، فلم أكن حينها مستعدا لجدل غير مهيئ له، غير أن كلامه لم يمر مرورا عابرا في تفكيري، بل بقي يشغلني كثيرا، ولا أنفي انه قد يكون أحد الأسباب الرئيسة لكتابة هذا المقال، بمناسبة الذكرى التسعين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي، بالرغم من أنني في تلك اللحظة فسرت الأمر تفسيرا سريعا، حيث أرجعته إلى توافق الفكر الماركسي مع طبيعة النفس البشرية الحالمة بالحرية والعدالة الاجتماعية والرخاء الاقتصادي ، خاصة في مجتمع خرج توا من جورا الإقطاع  ومازال مثقلا بآثار الجوع والاستبداد.

 مع بوادر الوعي في الدراسة والقراءة والتقدم في العمر، بقي ما ترسب في أعماقنا من مرحلة الطفولة والصبا  حاضرا – ولا أقول مرجعية ، لفهم ما نقرأه او ندرسه، وما حاولت الأنظمة اللاحقة ان تفعله في أدلجة العقول، بجميع الطرق والوسائل من دون ان تستطيع إزاحة آثار صعود وانكسار الحلم في نفوسنا، فقد وجدنا صورا جمالية أخرى للحلم الذي ما زال متقدا، فكان السؤال الذي لا يمكن تجاهله حتى ولو كان ثمنه تهمة السذاجة ؛ لماذا أغلب صناع الابداع الثقافي هم من الماركسيين: فنانون تشكيليون، شعراء ، مسرحيون، قصاصون، موسيقيون، سينمائيون  والكثير من صانعي الجمال الذين وضعوا لبنات الثقافة العراقية المعاصرة وطوروها؟.  فأي دارس للثقافة العراقية لابد ان يجد يدا ماركسية او شيوعية شاركت في صنعها!، وهذه ليست مبالغة أو اندفاع عاطفي بهذه المناسبة، وإنما وقائع لها شواهدها، وحسنة هذا الأمر ان منجزات هؤلاء الرواد بقيت عامل تحد للأحزاب التي قادت الأنظمة اللاحقة، فقد كان المنجز الثقافي الماركسي الذي شكل مشهد الثقافة العراقية بأجمعه، تحديا كبيرا امام حكومة حزب البعث بعد انقلاب 1968، عملت الكثير لمجاراته بمنجز مماثل، وهذا أقل ما يمكنها فعله، لأنها لا تسطيع ان تلغيه ، فكرست جهدا وأموالا كثيرة لتحقيق خصوصية فكرية تمثلها، ولعلنا نتذكر ان مصطلح (الواقعية الاشتراكية) ،وهو مذهب أدبي ومصطلح  ماركسي خالص،  كان سائدا ومحركا لمختلف أجناس الثقافة العراقية واحد تمظهرات الهوية الماركسية للأدب العراقي، وقد عملت السلطات الثقافية في حينها بقوة على التقليل من شأنه، وطرح مصطلح بديل عنه أسمته (الواقعية النضالية ) ممثلا للفكر القومي البعثي في الأدب، مقابل (الواقعية الاشتراكية ) الممثل للفكر الماركسي في الادب، وبرغم ما حشدت من أموال كبيرة وأسماء أدبية عراقية وعربية ومطبوعات وندوات لم يتمكن من ان يخلق هوية خاصة به، بهذا يمكننا النظر أن ما افرزه الوعي الشيوعي والماركسي من ثقافة عراقية  ذات أبعاد فكرية وجمالية  تحولت لاحقا إلى تحديات ومناسبات للجدل والأبداع  وهذه فضيلة أخرى له.

وبهذه المناسبة نجد من الانصاف ان نتذكر بالعرفان جميع اولئك المبدعين الذي صنعوا لنا ثقافة عراقية حملت هوية الشعب العراقي وتاريخه إلى جانب المناضلين الذي طرزوا أيامنا تلك بالأحلام الجميلة والأمل بوطن يرفل بالحرية وشعب يبتكر سعاداته حتى ولو من وجعه واحباطاته!