اخر الاخبار

ونحن نحث الخطى نحو مئوية الحزب الشيوعي العراقي ونقف على عتبة سنواته التسعين الخالدة، إنما نعيد للذاكرة ميلاد الفكر التنويري الحر والديموقراطي وانبثاقه في العراق لأول مرة بتوافق مع هذا الميلاد المجيد. إنه خيمة تجاوزت الفعالية الحزبية المتعينة أو المظلة السياسية والآيديولوجية إلى هوية وطن عندما كان الحزب يقود حركة الجماهير ويتوجها بمناهضة القرار السياسي أو التضامن معه عندما يصب في خدمة الشعب، ويستطيع أن يُحرك الملايين ضمن هذا المسعى النبيل التي يتوخاه. وضمن هذا المسار فقد احتفظت الذاكرة العراقية بمئات الأمثلة من المواقف الثورية التي تتساوق مع الأهداف، أو على صعيد الأسماء التي نقشت حضورها على خارطة الوطن وطرق النضال واستبعاد صيغ المهادنة مع الأنظمة القمعية، مرة بطرق الرفض السلمي والاحتجاج، وأُخرى عن طريق الكفاح المُسلح الذي خاضه الحزب الشيوعي العراقي ممثلاً في تجربة الأنصار الشيوعيين التي اتخذت من كردستان العراق ميداناً لحركتها حتى نهاية النظام السابق. تقودنا إلى ذلك أحلام اليقظة المتشاكلة مع الواقع وامكانية تحقيقها حتى وصلت أحلامنا إلى التسعين والسعي من خلالها إلى تحقيق صورة الوطن البهي السعيد وهو ينعم بالحرية، إذ ما زلنا نتذكر قمصان معلمينا وقد قُدت من الصدور التي تحمل تلك الأفكار السامية إزاء مواجهة أزلام السلطة آنذاك، المعلمون الذين يمارسون دورهم التربوي والأخلاقي من أجل مسار تعليمي حقيقي تعلمنا منه الكثير، وما زالت صور هؤلاء ماثلة في الذاكرة وهي تروي قصص كل منهم على صعيد الزمان والمكان المعينين، قصص المجابهة واليقين الراسخ بالوصول إلى تلك المرامي.

وعلى الرغم من خذلان البعض، ووحشية الأنظمة المتعاقبة ظل الشيوعي العراقي متقد الفكر ومتطورا في سياقات تكريس الديموقراطية في خطابه الذاتي داخل فضائه التنظيمي، أو داخل المنظومة السياسية، مُجسداً حضوره الأكيد داخل الضمير الجمعي بفعل المواقف البيضاء التي رافقت تلك المسيرة منذ التأسيس وحتى الوقت الحاضر. ولعل هذا الحضور المعنوي مكنه من العودة سريعاً داخل البنيات الاجتماعية وإعادة تواجده داخل الفضاء الاجتماعي المتنوع، والعمل بصدق لتكريس تلك الأهداف والمرامي التي يجري الحديث عنها في الظروف الحالكة والعسيرة التي نال منها الحزب كثيراً من خلال الخصومات والعداء المُسبق الذي لخصته تنظيمات ما بعد 2003 وتعرض عناصره إلى المضايقة والاغتيال والتصفيات الجسدية. بيد أن هذا لن يثنيه عن المواصلة والتحشيد الشعبي ورفض القرارات التي تُثير حفيظة الجماهير الواسعة، واحتجاجها السلمي إزاء كل ذلك، حيث كان الحزب بحضوره الرمزي والفعلي داخل هذه الممارسة يتقدم الجموع، ويوجه حركتها ويصحح المسار، وصولاً إلى التخلي عن السلطة وعدم مشاركتها عندما تتناقض مع رؤاه الخاصة وستراتيجيته الأساسية وتطلعات الجماهير، مما أدى إلى انسحاب أعضائه من البرلمان ومجالس المحافظات في لحظة تعرض المحتجين إلى الرصاص. وهكذا جسد تطلعاته الأولى التي بنيت عليها فلسفته، وعبر هذا كله ظل يراقب حركته الداخلية ويعيد تقييمها في كل مرحلة من مراحل الصراع على الأرض، ويُحيلها إلى مواقفه القديمة المُتجددة، مقروناً باصطفافه بجانب الجماهير والمطالب الشعبية منذ ملكية الحكم إلى جمهوريته، والمماحكات التي تخللت طبيعة الصراع، وصولاً إلى اللحظة الراهنة ومرافقة الكثير من القديم لها ممثلاً في الاستعداء من قبل تنظيمات المحاصصة والفساد والاتفاق على هذا النهج وإن اختلفت في ما بينها إزاء صراعها على المكاسب والاستحواذ على السلطة.

ولأن الحزب الشيوعي العراقي في جوهر فلسفته ينتمي لقاع المجتمع ويعكس طروحات طبقاتها الفاعلة صانعة الخبز والحياة والثقافة، فهو يتخذ بوصلته من حركة المجتمع وتطلعاته عبر تراكماته التاريخية، ويحوك أواصر تلك العلاقة ويديمها باستمرار في ضوء الثقة المتبادلة بينهما، بوصفه الممثل الحقيقي الوحيد لتطلعات الجماهير والدفاع عنها بصدق بعيداً عن البرجماتية السياسية ضمن مظلة  لها متبنياتها الفكرية التي تستطيع أن تناور في التعبير عنه في جميع المحافل، وتبني مواقفها والعمل بصيغ متعددة تفرضها اللحظة والراهن السياسي  للضغط من أجل تحقيق المصلحة العليا.

وعلى الرغم من الاشتباك الآيديولوجي والصراعات السياسية المتعاقبة والمستمرة والتعبير عن رؤى الجماهير فقد ظل الحزب الشيوعي العراقي أميناً لمفردة الثقافة بمختلف أجناسها وانشطاراتها وتوجهاتها، انطلاقا من مفهوم (الوعي) الذي يفترض وجوده ضمن خصائص الطبقات المدافعة عن حقوق الناس ومصالحهم بحسب (ماركس). الوعي الذي يسبق الوجود الطبقي الاجتماعي وهو ينشد التغيير، إذ كان نصيراً لطبقاته سواء كانت (فلاحية، عمالية، وثقافية) وغيرها ولم يتهاون أو يتراجع في الدفاع عن تلك المصالح لأنه يعدها خيانة للمبادئ التي آمن بها، مثلما يُمكن أن يخون البعض مبادئ الطبقة ويتعكز عليها للوصول إلى السلطة ومغانمها، كما يشير إلى ذلك (أدوار سعيد) ، وظل يرعى تلك القيم ويعمل على تنميتها وتقديم الرعاية الواجبة لها من دون أدنى انحياز لجنس ابداعي على حساب الآخر، أو هوية مقابل أُخرى، ولعل الكثير من المنجزات الأدبية والفنية (الابداعية) الكبيرة ترتبط به بشكل مباشر، إذ ما زال الجندي في نصب الحرية للفنان (جواد سليم) يحاول أن ينال حريته ورمزيتها الكبرى لحرية الشعب من خلال تحطيم قضبان السجن وهو يدافع عن التنوع الطبقي الذي تتضمنه مفردات النصب، وما زالت حمامات (فائق حسن) وهي تطير في ساحة الطيران لتصل إلى قلب المدينة الحالمة بالحرية والفرح وتستمع إلى الأكف المصفقة لها التي تزداد يوماً بعد آخر، لتتخذها الجماهير ذات يوم رمزية لفعل الاحتجاج. وما زالت القصائد والأناشيد تحفر موقعها داخل الذاكرة الجمعية حتى وإن لم تخرج مباشرة من ذلك المعطف، لكنها تلتحف معطف الوطنية الحقة وتصطبغ بها، وما زالت كتابات عبد الجبار وهبي تمثل شواهد حية على طبيعة الصراع المستمر بين قوى الخير والشر، أو صوت (أبو كاطع) وهو يرن في الآذان عبر نصف قرن من الآن بلغته الشعبية المحببة التي تصل إلى أعماق القصبات والقرى القصية، وما زالت قصائد النواب في وترياته أو قصائده التي لامست الجُرح العراقي حين تغنى شباب الانتفاضة وشيوخها بجرح صويحب الذي لم يندمل حتى الآن. إنه صوت الثورة المستمرة، وصوت المهمشين وجميع الساعين إلى الحياة الكريمة.

عرض مقالات: