اخر الاخبار

يبلغُه أنَّ الشيوعيين يحتفلون بالذكرى التسعين لتأسيس حزبهم.

لا بد إذن من هدية؛ فلطالما هفا قلبُه الى عُمق فكر حزبهم وسموِّ مبادئه. خطرَ له أن تكون الهديةُ لوحةً يرسمها يشكّلُ فيها ما يجسد المعنى الذي يملأ وجدانه هو كلّما لُفظت أمامه كلمة (شيوعي). يفطنُ الى أنه لا يجيد الرسم، مثلما يتمنى. لا يُفَتُّ في عَضده، ويحسم قراره بأن يوكل الأمر بكلّيته الى وجدانه؛ ثم يَذَر الفرشاة تترجمُ.. تفرشُ الألوان على قماشة اللوحة وفقَ ما يبوح به نبضُ وجدانه. ينتقي أنقى الألوان وأصدقَها وأبلغها، ويقول في نفسه إنَّ ذا بصيرةٍ لن يستعصي عليه أن يفرزن الأشكال وما تحمل من جزئيات المعنى. فذو البصيرة سيُميّز إذ يرى الى اللوحة، وسط مزيج الألوان المتلاطمة المتصارعة بالمعنى، أشكالاً وأشكالَ: وجوهاً سيرى تقطرُ صفرةً.. ولا فرقَ بين وجهٍ لطفل وآخر لشيخ أو بين وجهٍ لإمرأة ووجه لرجل؛ عيوناً جافةً تتهدَّل عليها أجفانٌ ذابلةٌ يوهنها الأسى؛ سيرى أسمالاً كانت يوماً ما ثياباً، تتسربلُ بها أجسادٌ شبحيةٌ؛ منازل متهالكة السقوف يرى، ونخيلاً بلا رؤوس منحنيَ الجذوع؛ أنهراً أقرب الى الجفاف، وعلى أكتافها زَرْعٌ متيبسٌ مصفرٌ له لون صُفرة وجوه الآدميين ذاتها. وفي العٌمق من خليط الأشكال هذا يميِّز ذو البصيرة هياكل آلاتٍ توحي بأنها تراكيبٌ آليةٌ لاستخراج النفط. التراكيب هذه غير واضحة بقوة، كما لو أنها مُطمَسةٌ تحت وطأة ألوانٍ صارخة تجسِّد لذي البصيرة، لا لغيره من رائيين، جزئيات أُخر من مقتربات المعنى ذاته.. ربما هي أقلامٌ مكسَّرةٌ وبقايا رِحلاتٍ في صف مدرسي، تظهر من تحتها أقدامُ أطفال حافية. ثم وسط هذا الخضم يفرزن الرائي، أيضا، جموع يافطات قماشُها ممزقٌ، والكلمات المخطوطة عليها مشتبكةٌ ببعضها بعضاً، فلا يكاد المتمعّنُ فيها يقرؤها. آثارٌ لصيحات متضافرة تلوح في أفواه مفتوحةٍ على وسعها، مُتحشدةً تنتشرُ بين اليافطات. وفي مكان من اللوحة.. في القلب منها.. تبرزُ مشانقُ متدليةٌ حبالُها؛ ومن حلقات إنشوطاتها يتفجر ضوءٌ وهّاج. الضوء يسقطُ على خارطةٍ بهيئة بلدٍ فسيحٍ حدودُه متآكلةٌ، وقد تشرِّبت خللها الى داخل الخارطة خيوطٌ سود.  في أقصى يسار اللوحة، حيث تتراصُّ العتمةُ، يكون بوسع ذي البصيرة، وهو يدقق نظرهُ، أنّ يلتقط خطاَ طويلاً متعرّج المسار كأنه دربٌ متطاولٌ لا نهائي.. لفرط طوله يٌعيي اللوحةَ إحتواؤهُ، فيبدو كما لو أنه لا يقيم وزناً لإطارها إذ يتجاوزه إلى خارجها.

هل جهَزَتْ اللوحةُ هديةً للشيوعيين في ذكرى ميلاد حزبهم التسعين؟. لا أبداً. فلقد تذكرتُ مشهداً في رواية (في اللا أين).. كل ما عليّ فعله الآن هو أن أقتطع الصفحة المكتوب عليها المشهد وألصقُها، بطريقة الكولاج، على قماشة اللوحة فتصيرُ جزءاً من مكوًناتها. الكلمات في ذلك المشهد، نحوٍ ما، مرسومةٌ بلونٍ مُضطرم.. يتماهى مع اصطدام ألوان اللوحة، حتى أنَّ الكولاج لن يُفرزَن بيُسر. وقبل أن يقرأ الرائي ذو البصيرة كلمات المشهد الروائي، يتعرَّف في هامش مُبتَسَر على (عزالدين). إنه أحد أفراد مجموعة هربت من بلادها وانتهى بها المآل الى جزيرة نائية معزولة، حيث سيؤسسون لحياتهم فيها. عزالدين كبيرٌ في السن مقارنةً بباقي أفراد المجموعة. كان في شبابه عضواً في حزبٍ وطني تقدمي، وها هو يقترح على المجموعة، وكبيرها رجلٌ يُدعى (أمجد)، أن يتخذوا لانفسهم أسماءً حركيةً. ثم يواصل الرائي الى اللوحة قراءة كلمات المشهد الكولاج:

“سارع عزالدين يعلن أنه يحجز إسم (سلام) من الآن قبل أن يوافق القوم على اقتراحه. فضحك أمجد.. صار عزالدين صار.. أنت اسمك (سلام) من الآن.. بس قُل لنا بصراحة هذا كان اسمك الحركي لّما كنت شاب؟. بصراحة إحكِ عزالدين.

.. والله يا أستاذ أمجد بصراحة بصراحة آني أحب هذا الإسم.. هذا أولاً، وثانياً كان عندي صديق ويّانا بالحزب.. يعني مثل ما تقول أنت كان رفيقنا وكان إسمه الحركي (سلام).. شاب شعبي ورجل بسيط.. كان بطل.. قطّعوه قطعة قطعة بالسجن وما حصلوا منه شيء.. ما اعترف على أي رفيق من رفاقه؛ ولا سمح لهم يذلوه.. يعني يا شباب اسمعوني زين.. صديقي هذا رفيقي هذا ما رضى يذلّوه بس رضى يقطعوه قطعة قطعة.. أستاذ أمجد أعطيتني هذي الفرصة.

عينا أمجد تغرورقان. بل ثمة دمعتان سحّتا فعلاً على وجنتيه، فضحهما ضوء لهب النار الذي لا يزال يقف معرِّشًاً عليها؛ وبدا أنه لا يستطيع الكلام. ثم لم يتمالك نفسه وخطا نحو عزالدين، الى حيث يتربَّع هذا على الرملاء.. خطا إليه وهو صامت، وجثا أمامه على ركبتيه، ومباشرةً أخذ رأس عزالدين وقبَّله وهو صامت. كيف بوسعه الكلام وقد انشغل ببكاء ضجَّ به صدرُه قبل أن يبتدئ في عينيه وعلى وجنتَيه؟!. كانت زينة (امرأة من أفراد المجموعة)، في الطرف الآخر من الحلقة، قد أجهشت البكاء قبل أن يخطو أمجد نحو عزالدين. فلما رأته يخطو إليه ويجثو أمامه ويُقبِّل رأسه، ودموعُه تسحُّ بصمت على وجنتيه، وثبَتْ من جلستها وانطلقت هميمة الخُطى تنضمُّ الى أمجد. لقد جثت هي الأخرى أمام عزالدين، ووجهها بكامله يتفجر دمعاً، ليس عيناها حسب؛ ثم من بين دفقات عويلها.. عيني سلام البقاء في حياتك وحياة حزبكم.. عيني سلام أنتم والوطن باقين. لقد منحته الوسام الذي كان ينتظر، وقُضيَ الأمر.. إنه (سلام) الآن.”.

وإذ فرغتُ من لصق هذه الصفحة، المُقتطعة من الرواية، بقماشة اللوحة، وسطَ اصطخاب الألوان المائرة، رسمتُ في أعلى يسار اللوحة.. تماماً فوق رصيص العتمة.. قرصاً أصفر تنبثقُ من حافة محيطه خطوط أشعَّةٍ نافرة الى كل الاتجاهات. إنها الرسمة الوحيدة التي أُجيدُها منذ الصغر. وعند ذاك فقط جَهزَتْ الهدية.

عرض مقالات: