اخر الاخبار

 لم تكن الحياة سهلة وميسورة في قصبات هي أشبه بالقرى تمتد على ضفاف نهر الغرّاف النازل من سدة الكوت نحو أهوار الجنوب، في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم تنقّل المعلم (ح) بين تلك المدن، كان يتحدى قدره أن يباشر في إحدى مدارس الأهوار لأول تعيين له، إصراره دفعه للذهاب إلى الچبايش وهو ما يزال فتى لم يتجاوز العشرين من عمره، لم يتردد في قبول العمل في عالم مسكون بالماء والطيور والأسماك، بيوت متناثرة من قصب وبردي، تبدو كالمقابر من بعيد، تناثرت هنا وهناك، ليس من وسيلة للتنقل سوى القارب الصغير (البلم).

حين ينزل المساء فيها يغطّ الكون في الظلام والنوم، إلا من ضوء يحيل المكان إلى كتلة من دخان أسود يلف البيوت المتناثرة، المشهد يدعو إلى الشعور بالاختناق، يلتحق به رفيقه المعلم (ع)، ليتقاسم مع صنو روحه (ح) خبز الحياة، كانا شريكين في الأمنيات منذ الصبا، نموذجان للصداقة الصافية، اعتقدا منذ البداية بعدالة قضيتهما، وافكارهما بإيمان منهما أنها اسلوب للحياة.

لم يكن بمقدورهما البوح بالأفكار، لكنهما كان يعطيان دروساً في السلوك، والأخلاق، والمثل العليا، وبين تلك الدروس ومضات سريعة عن ظلم الاقطاع، واستبداد الحكومات، كانت تمارين أولى في تنمية وعي التلاميذ الفقراء، بسيطة المعنى، عميقة الدلالات، هؤلاء كانوا ينقلون لأمهاتهم اللغة الجديدة لمعلمي المدرسة، ومنها إلى  الآباء، ليسمعها (الشيخ)، حينذاك يبدأ بشكل جدي للإنصات وسماع ما ينقله الأولاد من أفكار، كانت تشكل  تهديداً لكيانه، لم يكن بمقدوره مواجهة المعلمين، لأنهم لم يتعرضوا للدين ولا لمقدساتهم، بل كانت دروسهم تعميقاً للمحتوى الانساني للأديان والقيم النبيلة.

   ما كان أمام الشيخ إلا أن يسخّر أزلامه في التسلل إلى هياكل المدرسة الوطيئة فأحرقوها تماماً، في ليلة دهماء اشتعلت النيران وتصاعد الدخان في السماء، ومعه تصاعد عويل الأمهات وبكاء التلاميذ الذين خسروا فرصة مواصلة التعليم. وهم أكثر حزناً في مشهد توديع معلميهم حينما اندفع القارب بهما إلى وسط الهور نحو الحيرة والتساؤل! في حين ظلت ومضات عن الاستعمار، والاشتراكية، عالقة في عيون التلاميذ.

التحق (ح) في مدرسة الغازية أوائل خمسينيات القرن الماضي، وفي الوقت ذاته كان رفيقه(ع) قد باشر العمل في مدرسة الدواية، كل ما يحيط بالمكان يوحي بالأسى والجوع.

بدأ الأبن الأكبر للمعلم (ح)، دراسته في الصف الأول من مدرسة الغازية، وحين يتقدم في مراحل دراسته الأولية يتأكد له اهتمام والده بالرسم، والخط، وعمل وسائل الايضاح من مادتي الخشب والبورگ، وتحنيط الطيور، والمشاركة في المعارض التي تنظمها مديريات معارف اللواء، وغالباً ما يحصد الجوائز جراء هذه المشاركة، كان الأبن مراقباً لما يفعل أبيه، تيقنت له مهارته في الرسم، وسلامة رؤيته وحسّه المرهف بالألوان، وسعة خياله، لم يكن أحد يتصور أن هذا المعلم ينتج كل هذا الإبداع في بيت طيني مستأجر.

  لكن الشيء الذي بدأ يثير الأبن بشكل ملحوظ هو عن عدم انقطاع الأب عن القراءة، في فسحة صغيرة من الجدار، ركن الأب عدداً من الكتب، كان يحرص أن يقتنيها من مكتبة الغراف في الشطرة، ويدفع الفضول الأبن لتصفح عناوين الكتب وصور أغلفتها، لأول مرة تقع عيناه على صور شخصيات أصحاب (لحى)، أسماء غريبة تثير دهشته وتساؤلاته مبكراً : غوركي، ديستوفسكي، تولستوي، تشيخوف،  شولوخوف، ومع الكتب بعض المجلات : الآداب، الأديب، أهل النفط، الرسالة، الهلال، وروايات لنجيب محفوظ وحنا مينه، ومؤلفات لجبران خليل جبران، والمنفلوطي، وسلامة موسى، وجورج حنا.

 العراق والمنطقة يمران عصر تحولات بعد هزيمة النازية، انتفاضات، تظاهرات، كان معلمو الغازية مأخوذين ببهجة هلامية منحازين بالطبع لتلك التحولات، لم يعد الأب وحده، انما بدأ البيت يستقبل عدداً من هؤلاء في ساعات الليل، أو بعد انتهاء ساعات دوام المدرسة، ربما يختارون بيتاً لزميل آخر، يتسلون، يلعبون الورق، لكن بين تلك الفقرات كان هناك كلام يتحول إلى همس أحيانا. وتداول لكتب واوراق، وكتابة أحياناً.

بدأ الأبن يدرك أن هذه اللقاءات تنطوي على أمر آخر يجهله، وتصاعدت تساؤلاته حين أقدم الأب على شراء راديو (سيرا) بالأقساط يعمل بالبطارية الجافة، أثناء أيام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، إثر تأميم قناة السويس. كثفت مجموعة المعلمين من لقاءاتها، وأثناء الليل على وجه الخصوص، وجدوا في الغرفة الصغيرة من بيتنا عالماً يتسع لأحلامهم، كانوا منشدين لأخبار العمليات العسكرية، وصوت المذيع المصري أحمد سعيد، يرافق نشيد الله أكبر، ومعه نشيد (مش حنسلم، مش حنسلم) ...

ويمتد بهم الليل أحياناً لسماع أغنية أم كلثوم في حفلتها الشهرية من حدائق الأزبكية. يتسابقون في حفظ كلمات الأغنية واللحن.

تتشكل الرغبات الأولى للقراءة وتصفح الكتب عند الولد، فينمو وعيه مبكراً، يراقب الاحداث، ويتابع الأخبار مثل الكبار، لقد أيقظت فيه تلك الأشياء أسئلة لا حدود لها، يحاول أن يسلك ذات الطريق الذي سلكه الأب، عسى أن يتعرف على الروح الغامضة التي تخلق هذه الحيوية والإقبال على الحياة. أن يكتشف كنهها بنفسه. يستجيب الأب لبعض منها، موضحاً وموجهاً، لكنه لم يسجّله في معهد ليعلمه الأفكار. في لحظة الهيام بها سأله الأبن: ماذا يعني الحزب لديك يا أبتي؟ فأجاب الأب:

الحزب ليس سؤالاً نجيب عليه ونمضي، انه حياتك وقضيتك، هو حيث يكون الإنسان في خير وسلام، يطعمهم من جوع ويأمنهم من خوف، الحزب يغيث ظمأً في عروقي، ويشدّ على خفقات في الضلوع، يأخذ، بيدي في يقظتي والمنام، أحدّق فيه كي أرى عالمي والغد المشتهى لأبنائي وأحفادي. أرى فيه مدناً تستفيق وتنهض شامخة بالعلم والحرية والعدالة الاجتماعية، لا مدن غليان دم، وقرقعة سلاح، ولا تكايا للسراق والغزاة.

- هل عرفت المعنى الآن؟ أم أنك بحاجة إلى مزيد من الإيضاح؟

- نعم! عرفت المعنى، شكراً أبي!

كان الأب غارقاً بالحلم، يذهب نحو الأقاصي في عدالة قضيته وانتصارها، ليس مشروعه وحده الذي أراد له ألا ينطفئ، يحمله بين جانحيه لآخر لحظة في حياته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ننشر هنا نص مقال د.جمال العتابي كاملاً، بعد ان نشرنا في عدد جريدتنا السابق الجزء الاخير منه فقط، بسبب خطأ فني.

عرض مقالات: