اخر الاخبار

اجرى  الزميل محمد البغدادي حوارا شاملا مع الرفيق رائد فهمي، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، ونشرته الزميلة «الشمس» في جزأين. تعيد «طريق الشعب» نشر نص الحوار:

السيد رائد فهمي، سياسي عراقي وسكرتير لحزب عريق وقديم، كيف ينظر إلى المشهد السياسي الحالي في العراق، هل انتم راضون على ما تحقق منذ الإطاحة بالنظام وحتى هذا اليوم؟

فهمي:  إن ما تحقق بعد التغيير عام 2003  اشاع خيبة أمل كبيرة لدى القسم الأكبر من شعبنا، إذ كان الأمل قويا في أن يكون الخلاص من النظام الدكتاتوري قد فتح الطريق لإقامة دولة ونظام يقوم على أساس دستوري يعتمد مبادئ الديمقراطية والمواطنة والعدالة، وينبثق منه نظام سياسي يحقق استقلال العراق ويحفظ سيادته وأمنه ووحدة أراضيه،  ووحدة شعبه المتنوع قوميا ودينيا ومذهبيا وثقافيا على أساس ضمان الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لجميع مكوناته وأطيافه، ويحسن استثمار ثروات البلاد الوفيرة لضمان عيش كريم لأبنائه، ويؤمن استقراره ليغذ السير على طريق التنمية المستدامة.

أين نحن من كل هذا؟ فالبلاد مرت بظروف عصيبة وصراعات طائفية كادت أن تعصف بالبلاد وراح ضحيتها الألوف من جميع أطياف الشعب، تتحمل مسؤوليتها القوى والحركات السياسية التي اعتمدت في عملها وخطابها على تغذية التعصب للهوية سواء دينية أم مذهبية أم إثنية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.  كما ساهم في إيجاد أجواء مساعدة لتكريس التشظي في الهوية الوطنية، واعتماد العملية السياسية التي انطلقت بعد التغيير نهج «الديمقراطية التوافقية» التي ترجمت عمليا بتقاسم سلطات الدولة ما بين ممثلي المكونات الإثنية والطائفية، أي توزيع هذه السلطات ومنافعها وامتيازاتها على أساس التحاصص .

وبعد ما يقارب العقدين من التغيير، نجد أن سيادتنا لا تزال مثلومة واقعا، وخرقها من قوى خارجية، إقليمية ودولية، مستمر. وعلى الصعيد الأمني، تحقق نجاح كبير بفضل تضحيات أبناء شعبنا في قهر تنظيم داعش الإرهابي، ولكن الإرهاب لا يزال ناشطا في بعض مناطق العراق، وعلى الصعيد الاجتماعي وحياة الشعب نجد ظواهر الفقر والبطالة وتردي الخدمات وتعمق الفوارق في الدخل والثروة، وصلت إلى مستويات غير مسبوقة؛ حيث يتجاور الغنى الفاحش مع الفقر المدقع، وأيضا انتشار عمالة الأطفال وتضاؤل مشاركة المرأة في الحياة الاقتصادية.

وهذا كله أوجد حالة رفض وعدم ثقة عميقين بين المواطنين عامة والمنظومة السياسية الماسكة بزمام الحكم ومؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية، ما وجد تعبيره في الارتفاع المتواصل لنسبة العزوف والمقاطعة للعملية الانتخابية.

وفي ضوء كل ما تقدم وغيرها من ملامح الأوضاع الراهنة التي لا يتسع المجال للخوض في تفاصيلها، نرى ضرورة إجراء مراجعة جذرية للعملية السياسية وإعادة بنائها على أساس المواطنة والعدالة الاجتماعية والبناء الديمقراطي المؤسساتي للدولة، ونرى في هذه الوجهة شرطا ضروريا أساسيا تستند إليه عملية الإصلاح والتغيير لإخراج بلادنا من دوامة الأزمات والسير على طريق الاستقرار السياسي والاجتماعي والتنمية وبناء عراق مزدهر ينعم أبناؤه بالعيش الكريم.

 برأيكم، هل العملية السياسية الآن في العراق تشهد استقرارا سياسيا، أم انه استقرار وقتي، والوضع قابل للانفجار في ظل عدم وجود كتلة سياسية كبيرة فازت في الانتخابات الأخيرة وهي التيار الصدري، الذي يتمتع بشعبية عالية جدا؟

فهمي: أوضحت في جوابي على السؤال السابق بأن العملية السياسية القائمة على التقاسم المكوناتي للسلطات ونهج المحاصصة المنبثق منها هي أسّ أزمات البلاد، ولا نرى إمكانية تحقيق استقرار سياسي واجتماعي راسخ وطويل الأمد في ظل بنائها الحالي والمنظومة السياسية والأعراف والممارسات التي أوجدتها، كلّ ذلك يعد التفافا على الدستور. لذا ما تشهده الأوضاع حاليا هو هدوء نسبي مقارنة مع الفترة السابقة.  ونقول «نسبي» لأننا لا نزال نشهد نزاعات وصراعات في مناطق مختلفة، بعضها عشائرية وأخرى بين جماعات مسلحة وثالثة صدامات مع الجريمة المنظمة وشبكاتها، إلى جانب توترات في العلاقة بين الأحزاب المتحالفة في إدارة الدولة وغيرها من الظواهر. ويحسب للحكومة أنها عملت على تهدئتها والسعي لاحتوائها والحيلولة دون تفاقمها، ولكن من دون إيجاد معالجات جذرية تحول دون تجددها في المكان نفسه أو تفجرها في مكان أو مجال آخر. 

هذا ما يتعلق بالعوامل البنيوية لعدم الاستقرار، يضاف إلى ذلك الظروف التي أحاطت بالانتخابات السابقة وبتشكيل الحكومة، وبشكل خاص انسحاب كتلة نواب التيار الصدري الفائزة في الانتخابات، من مجلس النواب ومن العملية السياسية، على وفق الموقف الرسمي للتيار. وقد أوجدت عملية استبدالهم بنواب من الكتل السياسية المنافسة غير الفائزة حالة غير مألوفة في البرلمانات الديمقراطية وتعتبر نقضا لجوهر العملية الانتخابية الديمقراطية، إذ تشكل برلمان بأغلبية جديدة مخالفة لخيار الناخبين. وكنتيجة، فإن الحكومة المتشكلة من مجلس النواب بهذه التركيبة تمتلك شرعية قانونية ولكن مشروعيتها السياسية ،  بمعنى مدى تعبيرها عن الإرادة الشعبية ،  تظل موضع تساؤل وربما طعن، فضلا عن ان كتلة سياسية ذات عمق وامتداد شعبيين واسعين، وتمتلك القدرة على تحريك كتل جماهيرية واسعة، تتخذ موقف المراقب الدقيق لعمل الحكومة، يشكل بحد ذاته ضغطا على الأخيرة، ويفرض عليها التحسب له في إجراءاتها ومواقفها وتنفيذ برنامجها. وتساهم هذه الحالة في خلق أجواء لا يقينية تنعكس على أداء الحكومة الذي يغلب عليه السعي لإطفاء بؤر التوتر والتعامل مع المصادر المحتملة للنزاع، وفي أحيان غير قليلة على حساب أولويات تنفيذ المنهاج الحكومي.

وإذ تحاول الحكومة الحفاظ على الهدوء وإشاعة أجواء الاستقرار، فإن ثمة صراعا، يحتدم أحيانا، لتعديل موازين القوى السياسية بشكل عام، وفي داخل مؤسسات الدولة، وهذا الصراع والتنافس يشكل بحد ذاته عنصرَ عدم استقرار سياسي. ونخلص إلى القول بأن ما نشهده هو حالة هدوء نسبي، واستقرار وقتي. 

ما هو تقييمكم لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني وهل نجح بالتعامل مع الملفات الشائكة والعالقة التي تواجه العراق؟

فهمي: إن الظروف المحيطة بتكليف السيد السوداني كانت بالغة التعقيد كما أوضحنا جانبا منها في الإجابات أعلاه. ومن ناحية أخرى فان الحجم الكبير والمتشابك للمشاكل والقضايا العالقة المستعصية الحل والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، يضع أمام حكومته أعباء وتحديات جسيمة، وفي مقدمتها حالة الاستياء الشعبي الواسع وعدم الثقة والنفور من أقطاب السلطة والأحزاب والقوى والشخصيات الماسكة بزمامها، والتي كان انفجار الاحتجاج الشعبي في تشرين 2019 تعبيرا صارخا عن الغضب المعتمل في صدور قطاعات شعبية واسعة.

أريد لحكومته من قبل القوى السياسية المنضوية ضمن الإطار التنسيقي، وفي تحالف إدارة الدولة، أن تكرس جهودها لتوفير الخدمات التي يعاني القسم الأكبر من الشعب من قلتها ورداءتها وتخلفها والفساد المستشري في الأجهزة المسؤولة عن تقديمها، وحددت وجهتها الأساسية لتكون حكومة خدمية.

فمنذ البداية يواجه السيد السوداني وحكومته قيودا وضغوطات تحدد قدرته على مواجهة التحديات وتحقيق النتائج المرجوة في تنفيذ منهاج الحكومة، إلاّ إذا اتخذ السيد السوداني قرارات ومواقفَ جريئة تطلق يديه في التحرك خارج الأطر والمساحات التي وضعت لحكومته من قبل القوى السياسية التي رشحت تكليفه.

فمنظومة الحكم في البلاد تعاني بالأساس من أزمة ذات طابع بنيوي تتمثل بنهج المحاصصة الطائفية والإثنية المعتمد في بناء الدولة وتقاسم سلطاتها ومنافعها، وهو في المطاف الأخير السبب الرئيس للفشل في بناء مؤسسات دولة رصينة وفي الأداء وفي استشراء الفساد فيها وتردي الخدمات وتعمق ممارسات «الدولة العميقة». وكون حكومة السيد السوداني انبثقت من تحالف سياسي يتبنى نهج المحاصصة ويعتمده في توزيع مواقع المسؤولية واستخدام وتوظيف موارد الدولة، الأمر الذي يضع سقفا واطئا لما يمكن أن تحققه حكومة السيد السوداني في محاربة الفساد، وإصلاح مؤسسات الدولة والنظام المالي والمصرفي وإزالة مختلف أنواع التجاوزات على ممتلكات الدولة والمواطنين، وضبط المنافذ الحدودية. كذلك ضبط الجماعات المسلحة وحل المكاتب الاقتصادية للأحزاب التي تستحوذ على معظم المشاريع الحكومية. 

ومن جانب آخر، يعلم القاصي والداني أن ملفات الخدمات وملفات تطوير القطاعات الإنتاجية ومكافحة الفقر وتطوير الحوكمة الإدارية وثيقة الصلة بانتشار الفساد والتخادمات مع أصحاب المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة وضعف الأجهزة الإدارية، وغيرها من الظواهر والممارسات الضارة، التي يوفر نهج المحاصصة، تربةً خصبة لنموها. 

وقد بيّنت تجربة الشهور العشرة التي مضت على عمل الحكومة، أنه رغم ارتفاع وتيرة عمل ونشاط هيئة النزاهة وكشف قضايا فساد، كسرقة القرن وغيرها، إلا أن الإجراءات التي اتخذت لمحاسبة المسؤولين ظلت محدودة، وأطلق سراح المتورطين مقابل استعادة جزء من المبالغ المسروقة كما تم حصر العقوبة بالحلقات الدنيا والوسطى من شبكات الفساد. فلأجل أن تحقق الحكومة إنجازا مهما في مجال محاربة الفساد، عليها ألا تكتفي بالتصدي لصغار الفاسدين ومتوسطيهم، وإنما متابعة خيوط قضايا الفساد حتى نهاياتها، وما هو ربما أهم من ذلك هو السعي للقضاء على عوامل وظروف إنتاج الفساد وانتشاره عبر وضع الشخص المناسب في المكان المناسب من خلال اعتماد معايير المواطنة والنزاهة والكفاءة، بعيدا عن شروط المحاصصة، واتخاذ عقوبات صارمة بحق كبار المسؤولين من المتورطين بالفساد وليس الاكتفاء بتدويرهم.

وثمة ملفات وقضايا أخرى بالغة الأهمية على الحكومة التعامل معها بشجاعة ومنها قضية المياه وتأمين حصة عادلة للعراق. كذلك التضخم في عديد القوات المسلحة من جيش وشرطة وأجهزة أمنية وحشد شعبي وغيرها من الأجهزة التي زادت أعدادها عن المليون ونصف المليون شخص، وإذا ما أضفنا قوات البيشمركة تقارب المليونين؛ فالتوسع في عسكرة المجتمع له تداعيات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية كبيرة كما أنه لا يضمن تحسنا في الأداء الأمني، كما يشكل عبئا كبيرا على الموازنة العامة. 

وضع السيد السوداني مكافحة الفقر في مقدمة بنود المنهاج الحكومي، واتخذت الحكومة خطوات إيجابية في توسيع المشمولين بالرعاية الاجتماعية، ولكن العملية تستخدم من قبل بعض القوى والشخصيات السياسية لأغراض انتخابية، كما طرأ بعض التحسن على مفردات البطاقة التموينية، ولكن هذه الإجراءات لن تعالج أسباب ظهور الفقر وانتشاره، ما لم يتم إيجاد حلول لمشكلة البطالة وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية الأساسية وتوفير الضمان الاجتماعي، ولاسيما للفئات الهشة، وانتهاج سياسات اقتصادية ومالية سليمة وذات طابع تنموي وتحقق مستوى أفضل من العدالة الاجتماعية. وفي الأشهر الأخيرة شهدت ارتفاعا كبيرا في أسعار المواد الغذائية والمفردات الأساسية في سلة استهلاك الشرائح الضعيفة الدخل، كما انخفضت القدرة الشرائية للرواتب والأجور بنسبة تزيد على العشرين بالمائة بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار، ما  نجم عنه ازدياد مصاعب حتى بعض الشرائح الوسطى من الموظفين والكسبة.

وفي الوقت نفسه، ارتفعت أعباء أجور التعليم الخاص والطب الخاص في ميزانية الأسرة العراقية بسبب التدهور في التعليم والطب الحكوميين، ولا يزال ما يخصص لهذين القطاعين دون المستوى المطلوب واقل من نسبة ما تخصصه دول عربية ذات موارد متواضعة لا تقارن بموارد العراق.

فمكافحة الفقر تشترط تقدما وتحسنا في توفير الخدمات العامة الأساسية، وهذا يتطلب وضع هذه القطاعات في مقدمة أولويات الدولة والحكومة وزيادة الموارد المخصصة لها بصورة أكبر وتحسين حوكمتها وتخليصها من نفوذ شبكات الفساد، لا سيما في القطاع الصحي.

ومن جانب اخر اعتمد السيد السوداني سياسة التهدئة والحوار في مواجهة الأزمات المختلفة، وهو أمر مطلوب، ولكن الأهم هو اتخاذ الإجراءات الوقائية للمشاكل والأزمات قبل حدوثها وإيجاد المعالجات لها سواء كانت أزمات أمنية أم سياسية أم اقتصادية.

وتبين تجربة حكومة السيد السوداني، ان رئيس مجلس الوزراء اتخذ قرارات ومرر مشاريع قوانين تتعارض، إن لم نقل حتى تتناقض مع قناعاته، كما هو الأمر في تقديم مشروع قانون موازنة يرفع نسبة الإنفاق التشغيلي إلى مستويات غير مسبوقة وبأرقام متضخمة لها تداعيات مستقبلية خطرة. كذلك في مشروع الربط السككي مع ايران، ربما كان ذلك من أجل تحقيق نوع من الاستقرار السياسي. إن مثل هذا الاستقرار سيكون بالضرورة هشّا للخلل في الأسس التي أقيم عليها.

إن تحويل الهدوء النسبي والاستقرار المؤقت إلى استقرار راسخ يقتضي العمل من أجل توفير شروطه المتمثلة بالدرجة الأساس في تحقيق أوسع مشاركة ممكنة مجتمعية وسياسية في عملية صناعة القرار بالتلازم مع تحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية، وفي توزيع الدخل والثروة. وأثبتت آليات عمل نهج المحاصصة أن التحاصص المكوناتي قاد عمليا إلى تضييق دائرة صناعة القرار السياسي واتخاذه، وإلى زيادة الاستقطاب الاجتماعي، وإلى تعمق الطبيعة الربيعية للاقتصاد الوطني وتهميش القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية وتكريس الهويات الفرعية. لذا فإن وضع العراق على سكة الاستقرار والازدهار لا بد أن يقترن بالتوجه نحو اعتماد مبدأ المواطنة في شؤون الدولة والعمل على التحرر من معادلات واشتراطات المحاصصة، وكذلك حماية منظومة الحقوق والحريات المكفولة دستوريا التي باتت تتعرض أكثر فأكثر الى التضييق والانتهاك، والاستناد إلى الشعب المتطلع إلى التغيير في تحقيق الإصلاحات الجذرية المطلوبة.

برأيكم لماذا تراجع دور الحركات المدنية في العراق، رغم أنها حققت نجاحات كبيرة خاصة بعد تظاهرات تشرين، وفي الانتخابات البرلمانية الأخيرة حظيت بمقاعد جيدة، هل التشتت بين تلك الحركات هو السبب؟

فهمي: من الطبيعي أن لا تحتفظ الانتفاضات الشعبية الواسعة، كانتفاضة تشرين، بنفس الدرجة من التعبئة الجماهيرية لآماد طويلة، إلا إذا نجحت في تحقيق أهدافها في إحداث تغيير في منظومة السلطة يطرح عليها مهاماً جديدة، وخصوصا عندما تواجه بالقمع الشرس الذي قوبلت به واستخدام مختلف الأساليب لإضعاف القوى والشخصيات المشاركة فيها وتشتيتها. ولكن بموازاة التراجع في الجانب التعبوي، يلاحظ أن العديد من الحركات والتجمعات الشبابية الاحتجاجية اكتسبت المزيد من النضج السياسي ونشهد انتقالها إلى مجال الفعل السياسي الأكثر تنظيما بشكل أحزاب تحمل مشاريع فكرية وسياسية أكثر تبلورا ووضوحا. وانعكس ذلك في ممارساتها واستخلاصها لدروس مهمة من تجربة الحراك التشريني، أهمها القناعة بأهمية التنظيم والبرنامج والفكر وضرورة تجاوز حالة التشتت والتبعثر. وقد وجدنا انبثاق أحزاب سياسية جديدة ذات هوية مدنية وسعيها لتشكيل ائتلافات سياسية على أساس مشروع تغييري ذي هوية مدني. ورغم ما تحقق على طريق وحدة القوى المدنية غير أن حالة التشتت لا تزال قائمة وتتسبب فعلا في اضعاف الحركات المدنية. وينبغي أن لا نغفل الدور الذي تلعبه قوى وأحزاب متنفذة في تشكيل أحزاب ظل تحمل عناوين وخطابات مدنية من أجل تعميق التشتت والانقسام في صفوف الحركة واختراقها بهدف احتوائها وتمييع برامجها وأهدافها السياسية.

ما هو ثقل الحزب الشيوعي في الوقت الحالي، البعض يقول بأن الحزب اندثر ولم يعد له وجود في المشهد السياسي، هل ستشاركون في انتخابات مجالس المحافظات وماهو ثقلكم، وهل هناك تصحيح وتقويم داخل الحزب؟

 فهمي:  إن إعلان موت الحزب الشيوعي العراقي أو القضاء عليه رغبة وحلم راود الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم العراق منذ ثلاثينات القرن الماضي، وتعرض الحزب في ظلها إلى أعنف وأشرس حملات القمع والتنكيل، والكل يتذكر حملة النظام الدكتاتوري المباد أواخر سبعينات القرن الماضي والتي استمرت لسنوات بهدف تصفية وجوده. ولكن قضت واندثرت تلك الأنظمة وظل الحزب الشيوعي حاضرا، يضمد جراحه ويستعيد عافيته ليواصل نضاله ونشاطه الوطني والطبقي؛ السياسي والجماهيري والفكري. يبدو أن مثل هذه الرغبة ما تزال تراود البعض. إن حضور وثقل أي حزب، وخاصة حزب يحمل فكرا ونظرية علمية، لا يقاس بالوزن الانتخابي فقط رغم أهميته كأحد المؤشرات لتأثير ونفوذ الحزب. وبموجب هذا المؤشر وفي ظل عملية انتخابية غير عادلة حيث يتحكم فيها إلى حد كبير المال السياسي، وتوظيف موارد الدولة وسلطتها من قبل القوى النافذة في الدولة والتي تمتلك أيضا الفضائيات ولبعضها أذرع مسلحة وفي ظل منظومة انتخابية تخدمها، حصل الحزب ما يقارب المائة الف صوت في عموم محافظات الوسط والجنوب، إلا ان هذا المؤشر الانتخابي لا يعبر لوحده عن مكانة ودور وثقل الحزب. فللحزب دور بارز في تأريخ الدولة العراقية الحديثة على مدى تسعين عاما في مختلف مراحلها، واقترن اسمه ودوره بالنضال الوطني والديمقراطي والاجتماعي، وكان ولا يزال فاعلا رئيسا في الحركة الوطنية العراقية ومدافعا ثابتا عن الهوية الوطنية الجامعة مع ضمان الحقوق الكاملة لجميع قومياته وأطيافه، كما أنه ربما الحزب الوحيد المتواجد تنظيميا، فكرا ونشاطا، في جميع محافظات العراق ومدنه ومعظم أقضيته، كما أن تأثيره الفكري في الحياة الثقافية في البلاد لا يمكن إنكاره وله علاقات وصلات متميزة مع الحركة الثقافية والمثقفين في العراق.

 فالتأثير الفكري والسياسي للحزب في المجتمع العراقي يتعدى كثيرا ثقله الانتخابي. وما كان للحزب أن يستمر على مدى تسعة عقود متجاوزا الصعوبات والتحديات لولا تفاعله ومواكبته للتطورات والتبدلات في الأوضاع عبر عملية تحديث وتجديد متواصلة، تسير بوتائر متباينة حسب ظروف كل مرحلة، على صعيد الفكر والتنظيم والسياسة والخطاب. وهو الحزب الوحيد الذي يجري تقييمات نقدية لمسيرته وتجاربه ويستخلص منها الدروس، إذ أصدر الحزب وثائق تقييمية عديدة لعمله وسياسته ومواقفه في مختلف المراحل وهي منشورة في مواقعه الرسمية على الانترنيت. إن عملية التقييم والتدقيق والتصويب لسياسة ومواقف الحزب حاضرة في عمل هيئاته القيادية وبمشاركة واسعة من تنظيمات الحزب على جميع المستويات، وهذه تشمل أيضا الجانب الفكري حيث أقر الحزب وثيقة فكرية هامة عام 2008 بشأن الدروس المستخلصة من انهيار تجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي وعدد من البلدان الاشتراكية في أوروبا وهي منشورة على موقع الحزب تحت عنوان «خيارنا اشتراكي».

وسيشارك الحزب في الانتخابات القادمة لمجالس المحافظات بقائمة «تحالف قيم المدني»، وسيخوضها التحالف في 11 محافظة باسمه وفي المحافظات الأخرى سيخوضها الحزب والتحالف بقوائم محلية.

ما الذي حل بتحالف الشيوعيين مع الصدريين، لماذا تهدم هذا التحالف الذي كان قويا ومتماسكا ودخل الانتخابات قبل الأخيرة وحصل على الأغلبية أيضا؟

فهمي: انبثق تحالف سائرون بين التيار الصدري من خلال حزب استقامة، وبين عدد من الأحزاب المدنية وليس الحزب الشيوعي فقط، استنادا إلى المشتركات السياسية ومطالب الإصلاح التي رفعها الحراك الشعبي والتظاهرات التي استمرت على مدى عامين ما بين عام 2015 و2017 بمشاركة التيار الصدري وطيف واسع من القوى المدنية، بما فيها الحزب الشيوعي. لذا فإن هذا التحالف نشأ من القاعدة إذا جاز التعبير. وكان تحالفا انتخابيا يحمل إمكانية أن يتحول إلى تحالف سياسي أشمل. ونحن كحزب وكذلك الأطراف المدنية الأخرى في التحالف، كنا ننظر إيجابيا لهذه الإمكانية، ونسعي إلى توفير شروطها السياسية والتنظيمية وعبر أنشطة تشترك فيها قواعد أحزاب التحالف.

بدءا لا بدّ من التوضيح أن هذا التحالف لا يشمل الفكر والأيديولوجيا، فلكل من الحزب الشيوعي والتيار الصدري فكره ومعتقداته الخاصة وأقيم التحالف على أساس الاحترام المتبادل للاستقلالية الفكرية والسياسية والتنظيمية لكل حزب في التحالف، والعمل المشترك في إطار التحالف يقوم على أساس المشتركات السياسية التي تبلورت وتعززت خلال الحراك الجماهيري والاحتجاجي المشترك، وجرى تثبيته في منهاج وبرنامج التحالف. 

وقد أتم العمل بموجب قواعد وأسس التحالف هذه، وبعد الانتخابات لم يفز في الانتخابات سوى مرشحين من التيار الصدري ومن الحزب الشيوعي، حيث تشكلت كتلة ضمت 52 نائبا، من نائبين من الحزب الشيوعي. وقد استقطب هذا التحالف أصواتا من خارج دائرة الأعضاء والمؤيدين لأحزاب التحالف، ولذلك أمل ونسعى لأن لا يقتصر هذا التحالف على العمل البرلماني وإنما يمتد إلى العمق الشعبي باعتباره تحالفا سياسيا يحمل افقا يتعدى الانتخابات، ولكن هذه الإمكانية لم تتحقق وانحصر التحالف ببعده الانتخابي البرلماني.

وعندما انطلقت تظاهرات تشرين عام 2019 وقوبلت بالعنف وسقوط العديد من الشهداء، طالبنا بموقف أكثر قوة من التحالف لمساءلة الحكومة وأجهزتها والضغط على مجلس النواب لاستدعاء رئيس الوزراء والمسؤولين في الأجهزة لأمنية، إلاّ أن مجلس النواب لم ينهض بهذه المهمة فيما تواصلت أعمال استهداف المتظاهرين، وعندها قررنا السيدة هيفاء والأمين وأنا بصفتنا نائبين في تحالف سائرون، الاستقالة من مجلس النواب، تضامنا مع المنتفضين واحتجاجا على ضعف موقف مجلس النواب. وبانسحابنا لم يعد التحالف الانتخابي قائما، ولعدم تنشيط البعد السياسي للتحالف وتفعيل أطره التنظيمية، انتهى التحالف ككل.

كيف تراقبون تطورات الأحداث الأخيرة في كركوك، وما هو الحل الأمثل لأزمة هذه المدينة، وهل ترى أن الحلول الترقيعية غير مجدية وتعيد الأزمة كل فترة كما حصل مؤخرا؟

فهمي: إن الأحداث الأخيرة التي شهدتها كركوك ليست مفاجئة وإحتمال تكررها قائم طالما لا تتوفر إرادة سياسية حقيقية وصادقة لدى الأطراف السياسية الفاعلة في المحافظة ولدى الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، لايجاد حلول ومعالجات جذرية لوضع المدينة والمحافظة.  إن الاطار الدستوري والقانوني الوحيد المتوفر حاليا هو المادة 140 من الدستور، والتي ترفضها أحزاب المكونين العربي والتركماني، على اعتبارها وفق منظورهم إنها لصالح الكرد. في واقع الأمر أن منطوق المادة يهدف إلى إزالة الحيف والظلم الذي لحق بأبناء كركوك وغيرها من المناطق التي وصفت بالمتنازع عليها، كما إنها تعتمد آليات منصفة للتعامل مع نتائج سياسة التغيير الديموغرافي التي اتبعها النظام الدكتاتوري السابق، كما دعت إلى اللجوء إلى الاستفتاء لتقرير الشكل الإداري لكركوك في إطار الدولة العراقية ووضعت ثلاث مراحل لتنفيذ المادة.  من خلال تجربتي الخاصة في رئاسة لجنة تنفيذ المادة 140 لعدة سنوات، لم أشعر بوجود رغبة وإرادة سياسية لتنفيذ المادة لأكثر من مرحلة التطبيع، فبعد أكثر من خمس عشرة سنة ما زلنا في مرحلة التطبيع وصرف التعويضات التي ارتفعت مبالغها لعدة مليارات دولار مقابل تخصيصات سنوية غير منتظمة في الموازنة، لا تتجاوز المائة وخمسين مليون دولار سنويا! فعمليا تم تعطيل المادة 140 من دون توفير حل قانوني ودستوري بديل متوافق عليه، لذا نشأ فراغ يملأه توازن القوى القائم على الأرض، وهذا انعكس خلال السنوات الماضية في توترات واستقطابات تديم حالة عدم الاستقرار والتأزم.

إن أي حل طويل الأمد لا بد أن يحظى بقبول جميع الأطياف القومية والدينية والمذهبية والثقافية في كركوك، والقبول لا يعني بالضرورة الرضا الكامل، ولكن يعني قبولا بالحلول المقترحة إذا ما كانت محصلة حوارات ديمقراطية وعلى وفق آليات دستورية ديمقراطية وتأخذ بعين الاعتبار مصالح جميع الأطياف في المدينة والمحافظة. إنّ أي حل فيه جهة رابحة وأخرى خاسرة لن يكتب له النجاح، وقد يحصل فرضه بالقوة، لذا على جميع الأطراف المعنية بمستقبل كركوك والمناطق الأخرى موضع الاختلاف، التحلي بهذه الرؤية المسؤولة الطويلة الأمد والتحلي بالارادة السياسية والعمل الصبور لتفكيك عناصر المشكلة والابتعاد عن لغة التحريض والتأجيج لمشاعر التعصب والانطلاق من المصلحة العامة لعموم أهالي كركوك ومصالح البلاد.