اخر الاخبار

نتابع في هذا الجزء إجابات روكهيل عن أسئلة محاورِه جاو دينغكي في المقابلة المهمّة التي أجرتها معه المجلة الصينية «دراسات الاشتراكية العالمية» أواخر العام الماضي، والتي أعيدَ نشرها بالإنكليزية في دوريّة «مونثلي ريفيو» تحت عنوان «بروباغاندا الإمبريالية وأيديولوجيا مثقفي اليسار الغربي: من معاداة الشيوعية وسياسات الهوية إلى الفاشية وأوهام الديمقراطية».

*سلافوي جيجيك هو عالِمٌ ذو تأثير واسع في الأوساط الأكاديمية اليسارية العالمية الحالية، وبالطبع هناك العديد من الخلافات. لماذا تعتبرونه «مهرّج البلاط الرأسمالي»؟

-جيجيك هو نتاج صناعة النظرية الإمبريالية. وكما أشار مايكل بارينتي، فإن الواقع جذري، مما يعني أن العاملين في العالم الرأسمالي يواجهون صراعات مادية حقيقية للغاية من أجل التوظيف، والإسكان، والرعاية الصحية، والتعليم، والبيئة المستدامة، وما إلى ذلك. كل هذا يدفع الناس إلى اتخاذ مواقف جذرية أكثر فأكثر. وينجذب كثيرون نحو الماركسية بطبيعة الحال، لأنها تعطي تفسيراً واقعياً للعالم الذي يعيشون فيه والصراعات التي يواجهونها، وتطرح حلولاً واضحة وقابلة للتنفيذ. ولهذا السبب يتعين على الجهاز الثقافي الرأسمالي أن يتعامل مع اهتمام حقيقي للغاية بالماركسية من جانب الجماهير العاملة والمضطَهدة. ويتمثل أحد التكتيكات التي طورتها الرأسمالية، وخاصة في تعاملها مع الجماهير المستهدَفة من الشباب وأعضاء الشريحة الإدارية المهنية، في أن تقوم بالترويج لنسخة سلعية للغاية من الماركسية بحيث تحرّف جوهرها الأساسي. وهي تحاول بالتالي تحويل الماركسية إلى (علامة تجارية) عصرية تباع وتشترى مثل أي سلعة أخرى، بدلاً من كونها إطاراً نظرياً وعملياً جماعياً للتحرر من المجتمع الذي تحركه السلع.

يُعتَبر جيجيك مثالاً نموذجياً لهذا المشروع بعدة طرق. فهو مُخبِر محلي مناهض للشيوعية نشأ في جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية. وهو يدعي بانتظام أن تجربته الذاتية، كمثقف برجوازيّ صغير سعى إلى الارتقاء بمسيرته المهنية في الغرب، تمنحه بطريقة أو بأخرى حقاً خاصّاً في الشهادة على الطبيعة الحقيقية للاشتراكية. ومن ثم فإن الحكايات الشخصية المتعلقة بتجربته في جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية تحل محل التحليل الموضوعي. وهذا ليس مستغرباً من انتهازي يبحث عن المجد والشهرة. يُعيِّر جيجك وطنه الاشتراكي بأنه أدنى مرتبة من الدول الرأسمالية الغربية التي زودته بمثل هذا الارتقاء لدرجة أنّه أصبح الآن معترفاً به كواحد من كبار المفكرين العالميين من قبل مجلة (فورين بوليسي) ذراع وزارة الخارجية الأمريكية.

يتفاخر جيجك علناً بالدور الذي لعبه شخصياً في تفكيك الاشتراكية في جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية. كان كاتب العمود السياسي الأساسي في صحيفة منشقة بارزة، اسمها «ملادينا»، والتي اتهمها الحزب الشيوعي اليوغوسلافي بتلقي الدعم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA. كما شارك جيجيك في تأسيس «الحزب الديمقراطي الليبرالي»، وترشح للرئاسة في أول جمهورية انفصالية في سلوفينيا، ووعد حرفياً بأنه «سيساعد بشكل كبير في تحلل الجهاز الأيديولوجي الاشتراكي الحقيقي للدولة». وعلى الرغم من خسارته بفارق ضئيل، إلا أنه دعم علناً الدولة السلوفينية وحزبها الحاكم بعد استعادة الرأسمالية، وبالتالي دعمها طوال العملية الوحشية للعلاج بالصدمة الرأسمالية التي أدت إلى انخفاض كارثي في مستويات المعيشة لغالبية السكان (ولكن ليس لمستوى معيشة جيجيك بالطبع). وكان الحزب المؤيد للخصخصة الذي شارك جيجيك في تأسيسه موجهاً بشكل واضح نحو الاندماج في المعسكر الإمبريالي، لأنه كان المدافع الرئيسي عن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

الترويج للتهريج

إنني أرى هذا الليبرالي من أوروبا الشرقية باعتباره مهرّج بلاط للرأسمالية لأنه يجعل من الماركسية أضحوكة، ولهذا السبب بالتحديد يتم الترويج له على نطاق واسع من قبل القوى المهيمنة داخل المجتمع الرأسمالي. وبدلاً من حقيقتها كعلم تحرري جماعي متجذر في النضالات المادية الحقيقية، يقدم جيجيك الماركسية كخطاب استفزازي من الخداع الفكري الذي يتلخص في المواقف السياسية البرجوازية الصغيرة لطفل انتهازي فظيع. إن تصرفاته الغريبة وأزياءه «الشيوعية» تبهج البرجوازية وتستحوذ على فترات الاهتمام القصيرة لغير المتعلّمين. إنه كالمهرّج موهوب في الحصول على النشوة أو الضحك من الناس، وهو ما يترجَمٌ بسهولة إلى إعجابات ونجاحات في العصر الرقمي. كما أنّه يجيد بشكل خاص بيع سلع هوليود والجهاز الثقافي البرجوازي بشكل عام. من الواضح أن «جلالة رأس المال» King Capital يحب هذا المحتال، الذي ملأ جيوبه في هذه العملية. ومثل أي مهرّج جيد، فإنّه يعرف حدود اللياقة البلاطية ويحترمها في نهاية المطاف من خلال تشويه سمعة الاشتراكية القائمة بالفعل، وتعزيز التكيّف الرأسمالي، وحتى دعم الإمبريالية بشكل مباشر في كثير من الأحيان.

أخطر مثقف في العالم

إذا كان جيجيك حقاً (أخطر مثقف في العالم)، كما تصفه الصّحافة البرجوازية في بعض الأحيان، فذلك لأنه يعرِّض المشروع الماركسي لمحاربة الإمبريالية وبناء عالم اشتراكي إلى الخطر.

وتأكيداً للعلاقة الراسخة بين الارتقاء الموضوعي والانجراف الذاتي نحو اليمين، يمكن القول إن جيجيك أصبح رجعياً بشكل متزايد في دعمه للإمبريالية ضد الشيوعية. ولنتأمل هنا حكمه القطعي فيما يتعلق بالجهود الحالية لتحدي الاستعمار الجديد في أفريقيا، حيث يقول: (من الواضح أن الانتفاضات المناهضة للاستعمار في وسط أفريقيا أسوأ حتى من الاستعمار الجديد الفرنسي). وفي مداخلة عامة أخرى حديثة، قدم توضيحاً واضحاً بشكل ملحوظ لنوع (الثورة) التي يدعمها. وفي مناقشة ثورات صيف 2023 في فرنسا في أعقاب مقتل ناهل مرزوق على يد الشرطة، استند إلى الرؤية الماركسية المهمة - كما يفعل غالباً مع أيّ شيء متماسك يدعيه - بأن الانتفاضات ستفشل إذا لم تكن هناك استراتيجية تنظيمية يمكنها إيصالها إلى النصر. ثم قدم مثالاً على «الثورة» الناجحة قائلاً: (يمكن للاحتجاجات والانتفاضات العامة أن تلعب دوراً إيجابياً إذا تم دعمها برؤية تحررية، مثل انتفاضة الميدان في أوكرانيا في 2013–2014).

في الحقيقة، ما تم توثيقه على نطاق واسع هو أن انتفاضة «الميدان» كانت بمثابة انقلاب فاشي تم التحريض عليه ودعمه من قبل دولة الأمن القومي الأمريكية. هذا يعني أن جيجيك يعتبر الانقلاب الفاشي المدعوم من الإمبريالية، والذي أشار إليه سمير أمين باسم (الانقلاب الأوروبي/النازي)، مثالاً (إيجابياً) على (الرؤية التحررية) التي أدت إلى ثورة ناجحة.

يوضح هذا الموقف لهذا المثقف، فضلاً عن دعمه القوي للحرب بالوكالة التي تخوضها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في أوكرانيا، ماذا يعني أن تكون (المثقف الأكثر خطورة) في العالم – إنه يعني أن تكون فيلسوفاً فاشياً متنكراً في هيئة شيوعي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“قاسيون” – 5 شباط 2024

عرض مقالات: