اخر الاخبار

لجأت وزارة الثقافة العراقية، أخيراً، إلى وضع ضوابط جديدة تحد من عمليات انتقال اللوحات التشكيلية إلى خارج العراق، التي يتم بيعها عبر شبكات الإنترنت من قبل الفنانين أو المعارض أو تلك التي يقتنيها المسافرون من عراقيين وأجانب. وتمثلت الضوابط الجديدة بإلغاء دور لجنة الفنون التشكيلية، التي كان يقع على عاتقها إعطاء الضوء الأخضر للموافقة على انتقال اللوحات إلى خارج العراق بعد التأكد من كونها ليست من ضمن لوحات الفنانين الرواد أو التي يُطلق عليها تسمية “اللوحات المتحفية”. وحصر القرار، منح سمة انتقال اللوحات إلى خارج العراق بوزير الثقافة، وهو ما وجد فيه التشكيليون وأصحاب المعارض وسيلة لقتل الفن التشكيلي العراقي الذي يجد صدى وسوقاً رائجة خارج حدود العراق. وأدى هذا الإجراء أيضاً إلى تأخير عملية انتقال اللوحات للفنانين المشاركين بمعارض في الخارج كونهم يرتبطون بمواعيد محددة، فالحصول على إذن الوزير لانتقال اللوحات إلى الخارج عبر المطارات والمنافذ الأخرى، قد يمتد لأشهر. ووصف التشكيليون وأصحاب المعارض الفنية هذا الإجراء بأنه عبارة عن “قتل للفن التشكيلي العراقي”.

الاعتذار عن المشاركة بالمعارض

وكانت كل اللوحات العراقية التي يتم شراؤها من قبل المسافرين أو اللوحات الخاصة بالفنان التشكيلي، والتي يرغب ببيعها خارج العراق أو تلك التي يشارك بها في معارض فنية، تخضع لشروط معينة تتعلق أولاً بموافقة لجنة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة، كي تنتقل عبر المطارات أو المنافذ الأخرى، ودفع رسوم عن كل لوحة تُقدر بـ30 ألف دينار عراقي (22 دولاراً) مهما كان حجمها. ولم تكن هذه الإجراءات تعرقل عملية انتقال اللوحات رغم تحمل الفنان التشكيلي أو من يشتري اللوحة عبء دفع المبالغ المالية، لكن مع الضوابط الجديدة التي حددتها وزارة الثقافة وإلغاء دور لجنة الفنون التشكيلية وحصر الموافقة بيد الوزير أصبح انتقال اللوحات عملية صعبة، كما ساد الكساد سوق المعارض الفنية بسبب صعوبة الإجراءات، وبالتالي توقف بيع اللوحات التشكيلية لمن يطلبها في الخارج.

في هذا السياق يوضح الفنان التشكيلي عمرو الريس، أنه “من غير المعقول أن يضطر الفنان إلى إلغاء المشاركة بمعارض خارج العراق بسبب التعقيد في إجراءات منح الموافقة لخروج اللوحات. وبالفعل بدأنا نفكر بالاعتذار عن قبول المشاركة بالمعارض لصعوبة هذه الإجراءات، رغم أننا نتحمل المبالغ المالية والرسوم عن كل لوحة، لكن في المقابل نطالب بتسهيل إجراءات انتقال اللوحات، ما يحدث هو محاربة للفن وسد المنافذ الوحيدة لمصدر عيشنا”.

ويكمل الريس أن “البعض لجأ إلى تهريب اللوحات وإخفائها بين الملابس، الأمر الذي يسبب فقدان رونقها. من غير المعقول أن يلجأ الفنان إلى طرق خارجه عن القانون وتهريب لوحاته لغرض بيعها أو المشاركة بالمعارض الفنية. كما أن دولاً مثل فرنسا وبريطانيا ومصر لا تستقبل الأعمال الفنية إلا بوجود ختم وزارة الثقافة وكتاب الحصول على الموافقة لإخراج اللوحات”.

الثقافة في مرمى المحاصصة

وأوضح قاسم سبتي، رئيس جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، أن “العراق من البلدان الموقعة على اتفاقية الانتقال الحر للاعمال الفنية مع 55 بلداً في العالم. وليس من المعقول أن يدفع الفنان رسوماً عن عمله ويتفاجأ أيضاً بعدم الحصول على الموافقات اللازمة لإخراج العمل الفني”.

ورأى سبتي أن “تغيير السياسات في وزارة الثقافة مع كل وزير جديد يسهم في غياب وجود عمل مؤسساتي يتسم بالاستقرار والديمومة. الموجود حالياً هي سياقات عمل غير صحيحة، ومن الضروري أن تكون وزارة الثقافة بعيدة عن المحاصصة ولا يكون الوزير من حزب ومدير مكتبه من حزب آخر، هذه المحاصصة تسهم في عرقلة أي جهد ثقافي”.

واستغرب سبتي من حصر الموافقة لدى الوزير لانتقال الأعمال التشكيلية، فالقانون العراقي صريح ويضمن حرية انتقال الأعمال التشكيلية باستثناء أعمال الرواد، والموجود حالياً لا يشمل أعمال التشكيليين الرواد، بل إن غالبية الأعمال لفنانين شباب. ومن الأجدر بالوزارة الاحتفاظ بلجنة الفنون والاكتفاء بالحصول على موافقة المدير العام بدل حصر الموافقات بيد الوزير”.

غياب الدعم الحكومي

كذلك غاب الدعم الحكومي للفن التشكيلي العراقي، فلا توجد قاعات حرة لعرض منتجات ذلك الفن، بل إن وزارة الثقافة تفرض رسوم الإيجار ضمن قاعاتها عند إقامة المعارض الفنية للتشكيليين. وفي هذا السياق يقول الفنان التشكيلي، سمير الموزاني، “في السابق كان هناك دعم واضح للفنان التشكيلي، فالوزارة كانت تقوم بطبع البوسترات الخاصة بالمعارض وأيضاً تقوم، كجزء من دعم الفنان، بشراء أعماله، لكن ما يحدث الآن محاربة للفنان العراقي”.

وفي نفس السياق، يرى الفنان التشكيلي منذر علي أن “من يتحكم بالعملية الإبداعية في العراق لا يفقهون بالفن، فلا يمكن إدارة الواقع الإبداعي إلا بوجود أشخاص يقدرون قيمة الفن”.

كساد سوق اللوحات

ووجد أصحاب المعارض الفنية والرسامون سوقاً رائجة لبيع منتجاتهم خارج العراق بعد كساد اللوحات محلياً، فنشط التشكيليون العراقيون عبر مواقع الإنترنت لترويج أعمالهم التي لقيت إقبالاً لدى العرب والأجانب وكذلك المغتربون العراقيون. ويقول الرسام وصاحب معرض، كرار محمد إن  “ما يقارب 70 في المئة من عملنا هو خارج العراق، فالفن التشكيلي العراقي هو الأكثر طلباً  لمتذوقي ذلك الفن، ومع إجراءات وزارة الثقافة وضوابطها تأثر عملنا كثيراً، فمن يطلب اللوحات يضطر إلى إلغاء عملية الشراء بسبب هذه التعقيدات”.

ويختم بالقول، “في السابق كانت إجراءات الموافقة على إخراج الأعمال الفنية لا تستغرق أكثر من 24 ساعة، الآن تعقدت وتأثر عملنا وساد الكساد سوق اللوحات”.

في ذات السياق، يستغرب محمد الخفاجي، صاحب معرض فني، شمول الأعمال التجارية من الفن التشكيلي بنفس هذه الضوابط، “أعمال الرواد هربت وتعرضت للسرقة والموجود حالياً أعمال تجارية لغرض كسب العيش وليس من المنطقي أن تشتمل على إجراءات معقدة”. وأضاف الخفاجي أن “أي شخص مغترب أو سائح يتردد بشراء اللوحات أو يتركها بالغالب عندما يعلم أن هذا العمل يحتاج إلى موافقات رسمية معقدة من وزارة الثقافة لكي يتمكن من اقتنائه، ويمر عبر نقاط التفتيش في المطار من دون مساءلة”.

عبء التعقيدات

وفي سوق الرسامين في منطقة الكرادة ببغداد يشكو الفنان التشكيلي إياد كاظم، من تأجيل بيع كثير من الأعمال التي طُلبت من خارج العراق. ويقول “أضطر لترك عملي وأذهب إلى الوزارة لمتابعة البيروقراطية المعقدة للحصول على الموافقات وغالباً ما تتأخر لأشهر”.

وشدد كاظم على “ضرورة وجود لجنة متخصصة من التشكيليين توجد في المطار لتمنح الموافقات. يجب تسهيل عملية بيع اللوحات لخارج العراق كونها ترتبط بالحالة المعيشية للفنان فأغلب الفنانين ليسوا موظفين في الدولة ويعيشون من أجور بيع لوحاتهم. كما أنها تشكل مصدر دخل للبلد”.

من الرائد؟

من جهة أخرى، يعتبر التشكيلي ومدير “قاعة أكد للفنون” حيدر هاشم أن “القانون الذي يتخصص بحماية حق المؤلف لعام 1971 بحاجة إلى تفسير وتعديل، فالقانون تشوبه الضبابية، ومن المفروض أن يتم تحديد من هو الفنان الرائد الذي لا يسمح بانتقال أعماله خارج العراق؟”.

وفي نفس السياق يوضح الفنان التشكيلي، جمال العتابي أن “هناك حاجة لإعادة النظر بالقانون، فهناك أعمال تشكيلية لا تدخل ضمن الأعمال الريادية أو المتحفية، وعليه يجب على دائرة الفنون التشكيلية أن تحدد بالتفاصيل ما هي الأعمال الريادية”.

الإرث المفقود

وفي خضم الفوضى التي اجتاحت العراق بالتزامن مع الاحتلال الأميركي في عام 2003، فقد العراق نحو 6500 عمل تشكيلي مثلت المنجز الأبرز للفن التشكيلي العراقي باختلاف مراحله وتنوع مدارسة وفنانيه. ولم يتمكن العراق من لم شمل ما خسره من لوحات تشكيلية مهمة فأعداد اللوحات التي نجح بإعادتها تبقى قليلة مقارنة مع ما فقده من لوحات تمثل التراث التشكيلي العراقي. كما أن السجلات التي تحتوي على تفاصيل وأعداد اللوحات فُقدت أيضاً، مما يصعّب مهمة متابعة اللوحات المسروقة، وبالتالي إعادتها إلى معارض ومتاحف العراق.

وعبرت لوحات عراقية الحدود وتناقلتها مؤسسات وأفراد، بل إن كثيراً منها عُرض في مزادات عالمية، إذ عُرضت لوحة “معركة ذات الصواري” للفنان التشكيلي، فائق حسن في مزاد “كريستيز” العالمي فرع دبي وتمكنت جمعية التشكيليين العراقية من إيقاف عملية بيعها بالمزاد بعد إثبات أنها من اللوحات المسروقة، إذ كانت مملوكة لنادي الضباط التابع لوزارة الدفاع العراقية، وبالفعل أوقِفت عملية البيع في عام 2017، ولم يُعرف إن كانت اللوحة قد عادت إلى العراق مجدداً.

مع الضوابط

ومع ما تعرض له العراق من فقدان لإرثه التشكيلي، يرى الفنان ضياء حسن أن “العراق تعرض لسرقة كونية وغاب المنجز التشكيلي العراقي المهم”، مضيفاً أن “هذه الضوابط مهمة وضرورية للحفاظ على المنجز التشكلي الموجود حالياً”، مؤكداً في الوقت ذاته ضرورة وجود جهة متخصصة تحدد الأعمال الريادية المهمة.

وفي نفس السياق يؤيد الفنان التشكيلي، معراج فارس أن “هذه الضوابط ستحافظ على ريادة الفن التشكيلي العراقي وعدم ضياعه مجدداً”.

يذكر أن للفن التشكيلي العراقي تاريخاً عميقاً موغلاً بالقدم ويرتبط بالحضارات التي شهدها العراق، ولا يمكن أن يبقى ولأسباب إدارية معقدة حبيس زوايا المعارض الصغيرة من دون الانتقال عبر الفضاءات الأوسع إلى خارج حدود العراق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“اندبندنت عربية” – 11 شباط 2024

 

عرض مقالات: