اخر الاخبار

في العادة ان الأدباء الكبار همُ الذين يعطون القيمة الحقيقة للجائزة الممنوحة إليهم، لان ابداعهم الكبير يضفي المشروعية التي تُمَتِن من قيمة الجائزة، حتى صارت تلك الجوائز مهمة بأهمية من تختارهم لنيلها، ولعل اديب كبير مثل “جوزية سراماغو” من بين الذين منحوها قيمة أكبر.فالكاتب العظيم بتنوع اهتماماته له قدرة على إيصال موضوعات لم يسبق لأحد تناولها من خلال براعته في السّرد والوصفِ العظيمةٌ.جوزيه سارماغو الروائي البرتغالي الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1998، كتب العديد من الروايات الشهيرة مثل “العمى” و”الإنجيل يرويه المسيح”. كان متمرداً ومنتقداً للكنيسة الكاثوليكية والسياسة الأوروبية. توفي عام 2010 في جزيرة “لانزاروت” الإسبانية حيث كانت آخر مكان استطاع ان يستقر فيه.  ورواية “العمى” ليست كالروايات التقليدية التي وصلتنا، من اللغات الأخرى، وتتميز بانها تحتوي على كمٍ هائل من المعلومات التي تغني قارئها عن أنواع العمى الفلسفي، وعن الجهل الذي يحيط ببعض الروائيين خاصة الذين يظنون ان مهمة الرواية لا تتعدى سوى التباهي بالنرجسية المفرطة وحسب، بينما الرواية العالمية تنقلنا الى مباهج معرفية أخرى، وان للرواية رسالة وموقف.. وكعادة “ساراماغو” وعنايته بالحدثِ يشير الى اصابة سائقُ سيّارةٍ بالعمى، يصرخُ، ويستغيثُ، يتجمّعُ النّاسُ، ويتطوّعُ أحدُهم لإيصاله إلى منزله بسيّارته نفسها، لكنّه يسرقُ السّيّارةَ بعد إيصاله. يؤخَذُ المصابُ بالعمى إلى الطّبيب، فيفحصُه لكنَّ الفحصَ يُثبتُ عدمَ وجودِ مرضٍ، وأنّ كلا العينين سليمتين. وخلال ساعاتٍ يُصابُ سارقُ السّيّارة بالعمى، والطّبيبُ أيضاً، والمرضى الذين كانوا في غرفة الانتظار، ويتضحُ انه وباءُ ما سُمّيَ بالعمى الأبيض بين النّاس دون معرفة السّبب. كان العمى مختلفاً عمّا نعرفُه، بحيث يرى المصابُ كلَّ شيءٍ أبيضَ، وكأنّه غارقٌ في بحرٍ حليبيٍّ. تبدأ المرحلةُ الثّانيةُ من الرّواية داخلَ المحجر الصّحّيّ الذي وضعَ المصابون داخله ليعيشوا ويتدبّروا أمورَهم، فالدّولةُ لن تتدخّل في أيّ شيءٍ يحدثُ هناك (خشية العدوى) إلّا في أمرين هما: إرسالُ الطّعام والشّراب للعميان، وقتلُ مَن يحاولُ الخروجَ منه. فالكاتبُ هنا تحدّثَ عن غيابِ السُّلطة، والتي أحدثت خلخة وأثرِها بسبب هذا الغيابِ، ففي المحجر غابَتْ السُّلطة الدّاخليّة بين العميان، وغابَت سُلطة الدَّولة، يعني الوقوع في الفوضى ويعودُ لقانونِ الغابِ، أي البقاءُ للأقوى. ذلك ان كلُّ مَن في المحجر عميانٌ سوى زوجةِ الطّبيب التي تظاهرَت بالعمى لتبقى مع زوجها، ولأنّها كانت تتوقّع إصابتها به في أيّ لحظة. المرحلةُ الأخيرةُ من الرّوايةِ ستكونُ بعدَ الخروجِ من المحجر، ليس لِشفاءِ المرضى بل لسببٍ آخرَ، فكيف ستكونُ حياةُ الأعمى في عالَمٍ مفتوحٍ؟ زوجةُ الطّبيب المبصرةُ كانتِ الأشدَّ ألماً، لأنّها الوحيدةُ التي رأتْ انهيارَ الأخلاقِ، ورأتِ القذارةَ والخيانةَ والجثثَ واغتصابَ النّساء. الرّوايةُ رمزيّةٌ، فمصطلحُ العمى الأبيض، وعدمُ وجودِ خللٍ في عينِ المصاب به إشاراتٌ إلى عمى الفكرِ والوعي، وأنّنا نظنُّ أنفسَنا سليمي الحواسِّ، بينما نحن غارقون في وحل الجهلِ. الكاتبُ لم يسمِّ البلدَ الذي أصيبَ بهذا الوباء، ولم يسمِّ الأشخاصَ، بل ذكرَ صفاتِهم وأعمالَهم، كالطّبيب والأعمى الأوّل والطّفل الأحول والمرأة ذات النّظّارة السّوداء، وكأنّه أرادَ أن يُشعرَنا بنوعٍ من العمى. وناقشَ أخلاقيّاً في فقراتٍ من الرّواية أحداثاً جرَتْ في الرّوايةِ كمسألةِ سرقةِ سيّارةِ الأعمى الأوّل، ومسألةِ مساعدةِ زوجةِ الطّبيبِ للعميان وغيرها. كما أنّه لم يكشفْ سببَ الوباءِ، ولا سببَ ذهابِه، ولا سببَ عدمِ إصابةِ زوجةِ الطّبيب. براعةُ الكاتب في السّرد والوصفِ دقيقة، وذكر أحد القراء في انطباعه عنها “قد جعلَتْني أعيشُ الحالةَ، إذ أنهيتُ فِقرةً من الكتابِ داخل الميترو، ولمّا وقفتُ للنّزولِ ظننْتُ نفسيَ المبصرَ الوحيدَ، وأنّ النّاسَ لا يرونَني”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* “العمى” رواية جوزيه ساراماغو، ترجمة وتقديم علي عبد الأمير صالح. منشورات دار الجمل- بيروت/ بغداد 2018.

عرض مقالات: