اخر الاخبار

العيد التسعون للحزب الشيوعي العراقي ليس مجرد ذكرى تأسيس حركة سياسية قارعت الظلم بمختلف أنواعه، بدءاً من الأستبداد المحلي المتمثل بالسلطات الحكومية التعسفية، وصولاً الى التدخلات الخارجية للقوى الأستعمارية، وعلى وجه التحديد بريطانيا، التي أذهلها ظهور حزب من بين صفوف الفقراء يخاطب فئة كبيرة من العمال والفلاحين في المجتمع العراقي. وعملت هذه القوى التعسفية المحلية والخارجية، على أبعاد أية مفاهيم شيوعية أو يسارية من شأنها آنذاك أن تقلب الموازين في المنطقة، في حال ظهور حزب جماهيري يطيح بكل الظلم والتسلط على رقاب الشعب.

حاولت هذه القوى بكل ما لديها من وسائل أن لا يكون هناك تماس لبغداد بأية مفاهيم ديموقراطية او شيوعية، ولجأت الى تجهيل متعمد لفئات الشعب الفقيرة، التي لم يسمح لها بالأرتقاء الى مناصب حكومية بدوافع طبقية بحتة. لذا كانت مؤسسة الجيش مثلا محصورة بيد فئة من العوائل، ولا يسمح لأبناء العامة من الأنخراط في فصيلة الضباط. وكذا الحال بالنسبة الى ما يدعى بمدرسة أبناء الشيوخ، التي أُسست من أجل ان يبقى الأنفصال الثقافي بين طبقة الشيوخ من الأقطاع وطبقة الفلاحين أنفصالاً كبيراً.

ولهذه الأسباب وغيرها مما لا نريد الخوض فيه، ساهم ذلك في كبح حركة الأندفاع نحو الأشتراكية والشيوعية في العراق. ويذكر حنا بطاطو في كتابه (الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق) والذي قمت بترجمته مؤخراً، انه “ قلما كان هناك بروليتاريون في بغداد بالمعنى الاشتراكي يمكن ان تخاطبهم الدعوة الاشتراكية “. ويمضي قائلاً “ بل وحتى بعد ربع قرن عندما أعلنت صحيفة “لمفيد” العراقية أن حزباً للعمال على وشك ان يحتل الميدان أعتبر الأعلان مجرد نكتة”.

وهذا ما جعل القوى الأستعمارية تطمئن الى أن مخططها للأبقاء على الهيمنة على مقدرات العراق أمر مفروغ منه، ولكنها أُخذت على حين غرة عام 1934 عندما تأسس الحزب الشيوعي وأحدث دوياً كبيراً في الأوساط الأستعمارية البريطانية آنذاك. التاريخ البريطاني حينها كان لا يزال يذكر أن الحركة الشيوعية كان مقدراً لها ان تظهر في بريطانيا حتى قبل ظهورها في روسيا البلشفية، حين بدأت الطبقات العمالية تحديداً بالتململ من السياسات التعسفية والاوضاع الأقتصادية المزرية التي كان العمال البريطانيون يرزحون تحتها. ولعل أفضل تمثيل  لظهور الأشتراكية أبان نهاية القرن التاسع عشر هو ظهور كُتّاب مثل تشارلس ديكنز وبرنارد شو، اللذين أشارا بشكل مباشر وغير مباشر الى ضرورة أستبدال مفهوم التنافس والتنافر في العمل بمفهوم التعاون وشيوع مبدأ الشراكة في الفائدة من العمل. وهذا ما مهد لظهور حزب العمال الذي لا يزال يقارع فئة ذوي المفاهيم المحافظة.

حين ظهرالحزب الشيوعي العراقي للعيان سارعت بريطانيا الى الالتفاف على الجماهير العراقية كي تعمل على تسقيط المفهوم الشيوعي، وذلك باللجوء الى تكفيره دينياً وهو الأسلوب الذي نجحت فيه في البدء، بسبب ضعف الثقافة والتعليم وشيوع الأمية ومفاهيم الجهل التي كرستها السلطة البريطانية او من يمثلها من العهد الملكي أنذاك في العراق. وتم كل ذلك أثر تحسس السلطات البريطانية الأستخبارية أن هناك توافقاً بين ما يدعو اليه علماء الدين السياسيون، وتحديداً الشباب منهم، ممن كانوا يعملون على الانتفاض ضد الحكم الاستبدادي الاستعماري امثال السيد محمد الصدر والشيخ محمد الخالصي والسيد ميرزا محمد رضا وغيرهم من حركة الأستقلال كما يقول حنا بطاطو، وبين ما كان يدعو اليه البلاشفة آنذاك. وان صحت هذه المعلومات في أضبارات الشرطة السياسية البريطانية فقد كان هؤلاء أول عراقيين يقومون باتصالات مع ممثلي السلطة البلشفية.

أذن لم تكن بغداد بعيدة عن تأثير الأفكار الشيوعية رغم التضييق المستمر لسلطة الأحتلال البريطانية، فنشأ الحزب الشيوعي العراقي متوجاً بأيديولوجية خاطبت الفئة الأكثر تضرراً في المجتمع العراقي، وهم العمال والفلاحون تحديداً. ويعود السبب الى كون هاتين الفئتين واقعتان تحت نير قوانين وضعت من أجل خدمة الأستعمار. فلم يكن هناك قانون للعمال يحفظ حقوقهم بالمعنى الدقيق، كما لم تكن هناك أشارة الى أي ضمان أجتماعي يمكن ان يوفر عيشاً كريما للعامل بعد بلوغه سن التقاعد والتوقف عن العمل.

أما قوانين الاقطاع بالنسبة الى الفلاحين فقد شكلت حافزاً كبيراً نحو الأنتفاضة ضد الظلم الطبقي، وضد توزيع الأراضي الزراعية بين الشيوخ الأقطاعيين . أفيما كان وجود الفلاح وحياته وعائلته وكل مستقبله، مرهوناً بيد الشيخ والسركال. فهو كان يعيش على قوت بطنه ولا يملك أن ينطق أمام الشيخ حرفاً والا فقد حياته، الأمر الذي دعا شاعرا مثل محمد صالح بحر العلوم ان ينشد:

كم فتى في الكوخ أجدى من أمير في القصور

قوته اليومي لا يزداد عن قرص صغير

ثلثاه من تراب والبقايا من شعير

وبباب الكوخ كلب الشيخ يعوي: أين حقي

من جانب  أخر لا بد أن نذكر ان الحركة الشيوعية العراقية تأثرت بشكل مباشر او غير مباشر بالأممية الشيوعية، التي كان لها دور في تجسيد الحركة داخل العراق، وكان لوجود “ممثل الكومنتيرن بيوتر فاسيلي في العراق في فترة العشرينات، تأثير تشجيعي كبير ليتخذ الحزب بعدها شكله الحقيقي، ناهيك عن المراسلات في نفس الفترة والفترة التالية (كما تشير الأدبيات الحزبية) بين الثوريين العراقيين وعصبة مكافحة الأستعمار التي هي “ملحق الكومينتيرن”، أضافة الى بعض النشاطات المتقطعة في أوائل وأواسط الثلاثينات “لمركز ووحدة الأحزاب الشيوعية في الأقطار العربية،الذي أُقر في عام 1926 بقرار من سكرتارية الشؤون الشرقية للكومينتيرن”.

وبعيداً عن البدايات الثورية لتأسيس الحزب فانه ألتزم ومنذ البدء، ولم يحد، عن نفس المباديء التي نشأ من أجلها، حيث تشهد الأحداث الأخيرة بعد عام 2003 على مدى التزام الحزب بما جاء في بروتوكول مبادئه التنظيمية، حيث أشارت المادة (1) من نظامه الداخلي الى ان الحزب الشيوعي العراقي هو “أتحاد طوعي لمواطنات ومواطنين يجمعهم الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة والفلاحين والجماهير الكادحة، وعن الحقوق والمطالب الوطنية لسائر فئات الشعب، والكفاح من أجل تأمين التطور الديموقراطي الحر المستقل للبلاد، ولتحقيق التحولات الأجتماعية وصولا الى بناء الأشتراكية.”  بمثل هذا المفهوم نأى الحزب بنفسه عن كل مغريات السلطة،وأبتعد بصورة مطلقة عن كل بؤر الفساد التي فتكت بالمجتمع العراقي تحت مسميات عديدة، مما أفقد المواطن العراقي الثقة بكل ما يدور حوله من عملية سياسية. وتتجسد نفس هذه النظرة عندما ظهر الحزب أول مرة، أنطلاقاً من مباديء وطنية ودفاع عن حقوق الشعب، ليجسد من خلال قيمٍ راسخة لدى كل الشيوعيين، النضال المستمر ضد الظلم والفساد والهيمنة الخارجية على مقدرات البلد. اليوم اذ نستحضر الذكرى التسعين  لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي لا بد ان نشير الى مقدار التضحيات الجِسام التي قدمها الرعيل الأول من قياداته، أمثال مؤسس الحزب يوسف سلمان (فهد) ورفاقه الذين أرتقوا على أعواد المشانق ولم يرف لهم جَفن، لأنهم آمنوا بقضية الشعب والوطن. أما كفاح الحزب الشيوعي العراقي في الوقت الحالي فينبع من تقاطعات مع تيارات سياسية مختلفة، آثرت المصالح الشخصية والأثراء على حساب الصالح العام، الأمر الذي جعل من الحزب أيقونة للنزاهة يشير اليها الأعداء قبل الأصدقاء. ولأن أيمان الحزب بمبادئه ينطلق من خدمة الشعب فأنه حدد أسبقياته حسب هذا المفهوم، ووجد ان طريق النضال مستمر حتى تحقيق حلم العدالة الأجتماعية والاشتراكية في العراق، خصوصاً وأن قاعدة الفقراء تزداد أتساعاً نتيجة السياسات الخاطئة والمصلحية التي تناست حق المواطنة لكل أفراد المجتمع. والشيء المثير للانتباه أن القوى الظلامية اليوم باتت تخشى أنتشار الأفكار الشيوعية واليسارية والأشتراكية أكثر من خشيتها من الأستعمار والقوى التسلطية والأستغلال. فالتاريخ يعيد نفسه على ما يبدو، لكن الفرق الآن ينصب على المقدار الهائل للتواصل الجماهيري، الذي أستطاع الحزب النفاذ من خلاله الى قلوب الناس. وهذا لم يأت من عبث بل من تاريخ نضالي قل نظيره، أسس لقاعدة جماهيرية لن تكف عن التوسع. 

عرض مقالات: