اخر الاخبار

لعلها الرواية التي تعبر الأنهار والجبال والسهول كأي عمل عظيم يجوب العقول، ويحركها كتبها “روبرتو بولانيو” 1953- 2003م: تعد رواية “ليل تشيلي” اهم اعماله بعد رواياته “تعويذة”، رواية “رجال التحري المتوحشون”، “المنوّر”، و “2666”، المؤلف ولد في مدينة “سنتياغو”، وحصل على جائزتي “هيرالدي” عام 1998م،  و”رومولو جايجوس” عام 1999م. ترجمت أعماله إلى معظم لغات العالم. وكان من بين المهاجرين مع عائلته إلى المكسيك في 1968م، وعاد إلى بلده بعد الانقلاب العسكري على الرئيس “سلفادور ألليندي” المنتخب الذي اسفرت له الديمقراطية بالفوز التام. الذي لم يدم طويلاً، حيث قام الجنرال “بينوشيه” بانقلاب عسكري واعاد المجتمع إلى الديكتاتورية في سبتمبر/ ‏أيلول من عام 1973، يوم اقتحمت قواته القصر الرئاسي، واستطاعت ان تقتل الرئيس المنتخب وتمزيق جثته إرباً، بتأييد من كنيسة “الفاتيكان” التي تبدو وكأنها المبررة  لأعمال العنف كافة التي شهدتها قارة أمريكا الجنوبية. واحتساب “روبرتو بولانيو” من الأعداء، وتمّ اعتقاله بعد الانقلاب، لكنه تمكن من الهرب بعد ثمانية أيام. عائداً إلى المكسيك، وفي العام 1977 هاجر إلى إسبانيا حيث عمل في وظائف عديدة لكنه ثابر على كتابة الشعر، ولم يذع صيّته الا عندما كتب هذه الرواية “ليل تشيلي” فقدّم من خلالها أسلوبًا خاصًّا جعله كوريث من بين أعظم كتّاب أميركا اللاتينية.. (ألم تشبع غرائزك يوماً، ومن حولك لا يدعي النبوءة، والكمال. أين محطاتها التي لا يمكن أن يعبرها الكاتب المحايد- الرواية). فالمبدع الحَقُّ في جميع الظروف، لم يستسلم للضغوط، من أجل ان يبقى محايداً.. يحمل موقفاً من الحياة، (يعارض قولنا) “امبرتو ايكو”: -”الماضي هو الذي لم تحدثنا عنه كتب التاريخ بوضوح”، ويعارضه أيضا “تودوروف” في قول له “يبتكر الكتّاب المقتدرون عالماً متكاملاً من الخيال، وبعد حين يكتسب من الواقع ألوانه”. قالت الناقدة الشهيرة (سوزان سونتاج) عن الروائي في جريدة اللومند “أعمال “بولانيو” مُدهشة، مُتعددة الرؤى، لا يمكن تصنيفها، جعلت منه علامة بين كتاب أمريكا اللاتينية”. ذكرت (نيويورك تايمز) -”أفضل أبناء جيله. إنه يتحول إلى أسطورة بسرعة النيازك”. فما أشبهَ اليومَ بالبارحةِ، وما أقربَ المكانَ عن المكانِ، هذه الروايةِ الرائعة تتنَّبَأَ، وتخبرك جيّدا بتفاصيلٍ دقيقةٍ حول ما حدثَ هناك، وبات عليك أن تنتظر ليحدث عندك في بلدك، نتائجٌ محسومةٌ بنتائج ذلك الحدث المؤكد هي ذاتها استنتاجات لأخبار اليوم الذي أنت فيه، وسبق ان قرأت عنه بتفاصيله الدقيقة، وكلما كانت الرواية مُتقنَّة ستكشف لك عن مستقبل غامض تتمنى فيه انك لو قرأتها بدقّة في السابق لكنت قد وصلت الى نتائج لم تغفل عنها، ولو اعدّت قراءتها فأنها سوف تنبؤك بالذي يحدث عندك في المستقبل القريب والبعيد، تلك خصيصة الابداع وأحد أسرار الإتقانِ الروائي على الرغم من حيادتها، وتلك الصفّة الثانية التي تصعب على الراوي، ما لم يكن بمستوى الوعي بالتاريخ المدوّن والفرز بين ما جرى من تزيف للحقائق، وما يستنتجه العقل... كما أكد “جورج لوكاتش/ في تحطيم العقل”..

قارئ هذه الرواية المدهشة تفاجئه ليتساءل: كيف يلمّ الروائيون الكبار بكل تلك الاحداث بتفاصيلها الدقيقة التي حدثت وتحدث. رؤية تخترق ما حجب عنا، وقراءتها في رواية “ليل تشيلي”. رواية تبدد الأوهام وتشرح كيفية البوح عن الوعي بحركية التاريخ، كخطاب عميق الأثر. لقد رصد الكاتب “روبرتو بولانيو” عبر تدوين تلك النقائض المؤدية الى صراعات خطيرة، عبر شخصية مثيرة للجدل اخترعها كبطل لروايته شخصية الكاهن وعلاقاته الدقيقة مع من يَتَعبَّد ، ليقدّم صورة عن تلك الفترة من تاريخ تشيلي: مجتمع المثقفين، السلطة، الكنيسة، ومن جانب يختار البعض من قصائد الشاعر المعروف “لوركا”، ويبدأ بقراءة أخرى مختلفة عما كان يحب قراء “لوركا”.. جدلٌ عقيمٌ بين العقل المتحرر والعقل المصادر “تحت يافطة ايديولوجية زائفة”... الفكرة تريد العودة تعرض الأفكار المتقدمة، بغيّة اظهار خلفية ظلام الإيديولوجية السقيمة بالسخرية المبطنة حيث يرسم الكاتب شخصياته بقلم دقيق ويرصد مصائرها في عمله الذي يمثّل تأريخاً موازياً للوثيقة التاريخية التي تكشف بكل جدية لنا المنطق المنمق للعهر السياسي. (الفنانون يضحكون، يشربون، يرقصون، بينما في الخارج، في تلك المنطقة من سانتياغو ذات الشوارع الكبيرة الخالية، يسري حظر التجوال- الرواية). وعلى الرغم من “سباستيان أوروتيا لاكروا” كناقد أدبي وشاعر متواضع الموهبة ، يدخلنا بواسطته الى حديقة الكلمات التي تبتكرها النخبة السياسية وهي تؤكد علانية وبواسطة خطابات علنية تحملها خطابات بياناتها الولائية حيث يتحول العالم الى جهة طامعة في مجمل منهجها. “ليل تشيلي”   رواية مهمة جدا لأنها تسلط الضوء على الدُمية التي وصلت الى سدة الحكم (ماهي الا دُمية من قشٍ، أو فزاعة حقل لا تحرك ساكنا الا على وفق ما هو مرسوم لها).. تتسم الرواية بالعنف عقب الانقلاب العسكري الذي قام به “بينوشيه” (وما مارسته قواته من تعذيب واستخدام الاغتيال السياسي والإخفاء القسري، وإقصاء أي معارضة بالقوة، ووصل حد جرائمه السياسية إلى قتل 3 آلاف واعتقال 40 ألفاً آخرين طوال فترة حكمه - الرواية)، لقد عمد المؤلف الى كسر نمطية التقنية الروائية في تسلسل الأحداث وربطها ببعض ولم يقدمها بوصفها حكاية متتابعة عبر فصول كما عهدناها في الروايات السائدة، عمد الروائي الى تدمير عناصر الربط الشكلية للرواية وتعمَّد ان يكون مبتعدا عن الوضوح مكتفيا بالتلميح بلغة شعرية (المناهضون كانوا يمرون على قبو جيمي، حيث كان يقوم باستجوابهم، كان يستخرج منهم كل المعلومات الممكنة، وبعد ذلك كان يرسلهم إلى مراكز اعتقال أخرى - الرواية).. لقد عهدناه كاتبا خارجا على الأنماط الروائية السائدة، وكان يمازج السرد بالشعر.

 عن “روبرتو بولانيو” سبق ان صدر له خمسة دواوين شعرية امتازت هي ايضاً بلغة ساخرة من القامعين والضحايا أنفسهم. شخصياته الاخرى في الرواية: السيدين “بعر”، “وهرك” وممكن قراءة الاسمين بعد عكس الحروف “رعب” و”كره” حيلة لغوية استخدمها المؤلف ليمرر رسالته الواضحة الى القارئ بانها رواية في صلب الثقافة، واسرار الأدب، مؤكدا فيها على “النفاق الثقافي” الذي يقوم به انصاف المثقفين في مسيرة أحداث حقيقية

عرض مقالات: