اخر الاخبار

في أواخر عام ١٩٩١ نشر جورجي امادو رواية “اكتشاف أمريكا الجنوبية بواسطة الاتراك” وكان ذلك بتكليف من مؤسسة إيطالية بمناسبة أحياء ذكرى مرور خمسة قرون على اكتشاف العالم الجديد، ونقلت الى العربية باسم “نساء البنّ”، وتبين من كلا العنوانين بانها رواية تتحدث عن العمالة في مزارع البن والكاكاو البرازيلية التي تعد من أجود الأنواع التي تُصدّر الى العالم قاطبة.

يعد “جورجي أمادو 1912-2001م” من بين أبرز الكتُّاب الشيوعيين في العالم، انتسب إلى الحزب الشيوعي البرازيلي في عام 1926م، وانغمس في النضال السياسي منذ شبابه المبكر، وبقيت معظم رواياته تعكس تعاطفه مع ضحايا الظلم الاجتماعي. معظم بواكير اعماله طغت عليها صبغة الايدولوجيا الجاهزة، ولكنه لم يبق تحت نيرها. فكتب بتمرّد الاديب الشامل، الذي غالبا ما ينتقد الممارسات التي لا تصبّ في مصالح الشعوب، واعماله التالية جعلته الكاتب الأهم من بين الكتاب في العالم، الكاتب الذي سمتهُ بساطة الأسلوب، والذي يختار ابطال رواياته من المعدمين والبائسين الذين يمرون بضيق دائم. وان احداث هذه الرواية القصيرة الشيّقة جرت بين شخصيات من أصل عربي، اظهرهم الكاتب بصورة أعطت انطباعه المتطرّف في فهم العرب، واختياره لشريحة اجتماعية مهزومة على امتداد حياتها، بسرد جميل.. أبرز مثالب هذه الشخصيات التي كانت تعيش في مدينة “باهيا” مسقط رأس “جورجي امادو”. وكشف عن مدى احتكاكه المباشر بـ”الاتراك/ العرب” الذين وصلوا الى البرازيل بواسطة جوازات سفر عثمانية، منذ عام 1903م شخصيات من العرب المهاجرين والباحثين عن فرص جديدة للحياة... أحدهما سوري “جميل بشارة” والأخر لبناني “رضوان مراد” تجمعهما سفينة متجهة من الشرق لتستقر بهما على الأراضي البرازيلية. الأول الباحث عن أحلامه وطموحاته بعيدا عن صخب المدينة وسط مزارع البُن وأحلام الربح من اية تجارة، والثاني ملك حياة الليل والقمار الذي يختار “باهيا” لحياته ومغامراته. تجمعهم جلسات البارات واسرار نساء الليل والخطط الشيطانية عن الحب والزواج والتجارة والمال وأشياء أخرى، وتبدأ مراهنة بينهما من أجل الفوز بامرأة كانت على قدر ضعيف من الجمال ولكنها على قدر كبير من الغنى، عانس عذراء جامده متسلطة لا تنعم بالحد الأدنى من الجمال اسمها “آدا” والتي لم تتساوى مع شقيقاتها، من حيث الجمال والمرح، فترسل لها الأقدار ويتغير حالها في لحظة عندما يهبها والدها دكاناً في موقع مهم. فيتقدم الى مفاتحها شخص ثالث ويفوز بقلبها، ويقصى الاثنان الباقيان الى خارج الرهان. رواية من الأحداث السريعة المتلاحقة التي تجعل القارئ متلهف لاكتشاف ما تخبئه الأقدار. تعتبر “نساء البن” من بين أكثر الروايات التي يتحدث فيها “جورجي امادو” عن القاع العميق للمجتمع “البرازيلي” المختنق بوطأة الجريمة المنظمة التي تديرها عصابات الرذيلة في غفلة عن سلطة القانون، ولولا احتواء الرواية لذلك لما كان باستطاعتنا اكتشاف كل ذلك. حيث الكاتب الجيّد يكون دقيق الملاحظة، وله نظرة ثاقبة ومغامرة ايضاً.. عرف بتجربة حياتية شاملة، مكنته من دور الروائي الحقيقي في كشف الخفايا والأعماق الخطرة. خاصة المجتمعات التي تنوعت فيها الأطياف العرقية، التي تعجُّ بمختلف المهاجرين العاملين في مزارعها الشاسعة، وخاصة في مدينة “باهيا”. تمكن “جورجي أمادو” من اغناء المكتبة الإنسانية بروائع مثل “الدونا فلورا وزوجاها الاثنان”، “بلا الكرنفال”، “توكيا غراندي”، “تيريزا باتيستا”، “زوربا البرازيلي”، “عرق”، “غابريلا ثوم وقرفة” كتبها عبر لغة تهكمية ساخرة، و”فارس الرمال” التي تناول فيها سيرة حياة القائد الشيوعي البرازيلي “لويس كارلوس برستيس”، اما رواية “أقبية الحرية” المؤلفة من ثلاثة أجزاء ضخمة (2000 صفحة).. التي لم ترق لذائقة النقاد واعتبرت من بين الروايات المباشرة على عكس رواية “أراضي اللانهاية” التي تعد من الروايات الملحمية التي تتحدث عن الصراع بين الإقطاعيين والتجار في مناطق زراعة الكاكاو، والروايتين المذكورتين لم تنقل الى العربية، والجدير ذكره انه في عام 1946 انتُخب لعضوية البرلمان البرازيلي، ولكن الحكومة العسكرية اعتبرت الحزب الشيوعي من الأحزاب المحظورة، جعله ذلك يغادر بلده ليعيش نازحاً ما بين فرنسا وإيطاليا وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي، ولم يتمكن من العودة إلى بلاده إلا في عام 1952، اذ نال جائزة “ستالين” للآداب، وأصبح من بين أبرز اعضاء الهيئة التي تمنح هذه الجائزة الرفيعة، لكونه الكاتب البارز الذي وصف تراث أمته.

هذه الرواية تقع في 90 صفحة من القطع المتوسط، حسب ترجمة “مالك سلمان” الى العربية، ويمكن تجنيسها (نوفيلّا Novella) بامتياز؛ حسب زمنها وشخصياتها المحدودة، وقد عرف هذا النوع من الروايات القصيرة في العالم كشكل سردي له قراؤه. كما كتب مقدمتها الروائي البرتغالي “خوسيه سراماغو” واصفاً اياها بانها تحفّة فنية فريدة مضافة في مكتبة السرد الإنساني.

 

عرض مقالات: