اخر الاخبار

يمكننا القول انها رواية الخيال والسرد الواقعي معاً حيث يتداخل الاثنان ليخرجا لنا لوحة فنيّة رائعة وبترجمة متمكنة نقلت لنا حتى رائحة البحر المحيط في تلك الجزيرة. ممتزجة برائحة بساتين “تركيا/اليونان/ بريطانيا” وترابها الخصب، كما تدخل افتراضيا الى واقع سحري بديع، بلغة تشبه محاولة الرسم بالألوان، تعتني بدقائق التفاصيل الدقيقة، تصف بمهارة الحيوات، ووقع الجمال الساحر على الانسان، ثمة مكانين الأول في اليونان والثاني في لندن كمكانين افتراضيين تعرضهما علينا الخريطة السردية لتغطي بهما مساحة الخريطة السياسية، مؤثثان بفنية سردية عالية، قبل ان تنقلنا الى شخصيات روايتها، وعلاقاتها ببعض وعادة ما يكون المكان الواضح هو الجزء الأهم في الرواية لأنه المساحة الحقيقية التي تتحرك عليها الشخصيات وتتعامل معها الاحداث. الرواية معنيه بالمكان بشكل لافت. كونها عن حب البستاني للمزروعات، وهو يراها تكبر امامه كل يوم. الروائية التركية “اليف شفاك” مؤلفة قديرة تدخل الى قلوبنا المسرة عندما تربط تلك القصص بذاكرة الطفولة، وهي تكتب عن فتاة مراهقة في غرفة الدرس وكيف ينشغل قلبها بحبيبها، وتنسى ان معلمتها تكلمها، بينما تتلقى تعليقات جارحة من بقية زملائها الآخرين..

 حب جارف يجري في السر وبعيد عن الأعين يحركه الوصف الأنيق لمجريات دقيقة التصوير يجري عبر تفكير المراهقة البريئة في أوائل السبعينيات حين التقت “ديفني التركية” البالغة من العمر 18 عامًا وكوستاس اليوناني” البالغ من العمر 17 عامًا في إحدى الحانات القبرصية لتبدأ علاقة غرامية بينهما، علاقة خفية برغم وجود احتدام صراع بين “اليونانيين والأتراك”، الذي تفاقم بشكل مطرد في تلك السنوات، فالروائيون الكبار يمتازون بدقة الملاحظة، وأيضا التحليل العميق لذلك المحتوى.

ومع صعوبة الكتابة عن العمر المتقدم والذكريات الموغلة في الدماغ الا ان “أليف شفق” تقدم قصة مؤثرة للحياة تشبه قصص الحب الكبيرة، “قيس وليلى”، كثير وعزة”، “روميو وجولييت”، وتصل عقدة الحكاية إلى ذروتها عندما أرسل “كوستاس كازانتراكس” إلى “لندن” من قبل والدته في عام 1974 دون أن يتمكن من توديع “دفني”، حيث لا يريان بعضهما البعض مرة أخرى إلا بعد مرور سنوات عديدة.

رواية متداخلة عن فترة الصراع التركي القبرصي والأحداث الجسيمة عام 1974، وما شهدته تلك الفترة من انقسام وكراهية، وعنف عرقي بين الشعبين المتجاورين والمتشاركين في البحر والسماء، وما خلفته في نفوس الأبناء من تلك الذكريات الأليمة من جيل إلى جيل. وهنا يمكن القول عن عبقرية الكاتبة التي جعلت تبتكر للحكاية شكلا جديدا، وتضع جزءً منها على لسان “شجرة تين” كأحلى حكاية شفيفة. حكاية أخرى عن الأبناء والاحفاد فصولها الارث الحضاري بعد أن نقلت من اليونان الى لندن من ترابها الذي كانت قد نبتت فيه الى مكان بارد كله صقيع وبرد. وهي تتابع قصة حب قد عاشتها بكل صدق أمرأه باتت مفقودة كبشر ولكنها باتت شجرة تين وارفة معطاء، أي ابداع في الوصف الذي جعل “اليف شفاك” تبثه الينا عبر حروفها الغزيرة بالمعلومات.. واضحة الرموز. فيما تغيب الحكاية امام الرمز ليظهر الهدف وتطفو الغاية فوق كل الصورة. اختارت الشجرة أن تثبت في مكان بأكثر من دلالة.

في كل فصل تشعرنا اننا نقرأ لكاتبة قديرة تعرف ماذا على الروائي من مهمة، ومن دور. (للشجر آلاف الاذان، في كل اتجاه، فانا اسمع اليسروعات وهي تحفر الثقوب في اوراقي، واسمع طنين النحل العابر، وصرصرة جناح الخنفساء. بل اميّز الخرير في اعمدة الماء الناعمة اذ تتكسر داخل غصيناتي. للنباتات قدرة على التقاط الاهتزازات، وكثير من الأزهار على شكل طاسات، كي تلتقط موجات الصوت التي قد تكون عالية جدا على الأذن البشرية، الاشجار ملأى بالأغنيات، ونحن لا نستحي ان نغنيها- الراوية).

“اليف شفاك” روائية متمرسة تجيد تشكيل فصول وحياكة الحكايات عبر فصول ذكية تربك الماضي بالحاضر، وتجيد التأشير عبر ما تريد أن ترمز به الى قوانينها السردية الخاصة بإبداع: (تمنيتُ لو قلتُ لهُ انَّ الوحدة محضُ اختراع البشر؛ فالأشجارُ لا تشعر بالوحدة ابدأ. يظن أناس انهمُّ يعرفون على محمل التأكيد أين تنتهي كينونتهم، وتبدأ كينونة الآخرين. الأشجار لا تعرف هذه الأوهام؛ فجذورنا المتشابكة تحت الأرض، وارتباطنا بالفطريّات والبكتريا يجعل كلّ شيءٍ بالنسبة إلينا مرتبطاً بالآخر- الرواية).

جاءت هذه الرواية عن ذلك التشتت الذي احدثته الحروب الحاقدة؛ فما من حرب مرت الا وتركت سنابك خيلها على المساحات الخضراء، واحدثت وقعها الذي لا يمكن ان يمحى، وجروح لا تندمل رغم كل القوانين التي تريد من المثقف ان يسكت عن تلك المساحات ان تبقى مغطاة الى حين. حيث “يوجد في قبرص خط فاصل يحرسه ذوو الخوذ الزرق. إنها حدود تفصل الجزيرة وتفصل بين المسيحيين، والمسلمين، واليونانيين والأتراك. ومن ثم فإن التقسيم ترسمه الحدود الدينية والوطنية والعرقية، لكن الأدب بالنسبة لي هو وسيلة للارتقاء إلى ما وراء كل الحواجز والتجزئة من أجل وضع أصابعنا على الأشياء المشتركة بيننا كبشر. لهذا السبب أتحدث عن أشياء تنتقل عبر الحدود، مثل القصص والخرافات والطعام والموسيقى والطيور المهاجرة، اختطت شافاك روايتها متحدية كل خطوط المنع التي يضعها رقيب السلطة، لتكون وثيقة بوح خطيرة ومهمة تلتزم بها كل الكتب وتكون جزء من التاريخ المكتوب، ويفضح كل مسكوت عنه، فهي كاتبة تتحدى سلطة الطمس التي تقوم على تجاوزه سلطتها الحاكمة، وهي ككاتبة تقول ما تريد قوله دون تشويه او تعمد بالسكوت او حتى مجاراة الرقيب. لان الاتراك مقموعين من لدن حكوماتهم وبقي القمع عليها حتى يسبب فقدان الذاكرة الجماعية. وتكون رواية السلطة فوق كل الروايات، وهذا ما يعترض عليه المثقف، بل وينتفض عليه لأنه لا يريد ان يكون مدجنا تحت اقواس وهمية تبعد القارئ عن الحقيقة. تتساءل شافاك كيف نحكى قصة مكان مزقته الانقسامات والعنف العرقي دون الوقوع في فخ القومية والقبلية؟ لسنوات، لم أتمكن من العثور على زاوية الاقتراب الصحيحة. كنت أقرأ وأبحث وأدوِّن الملاحظات وأفكر في الأمر، لكنني لم أتمكن من العثور على الفجوة حتى أعطتني شجرة التين منظورا مختلفا، فهي تعمر بعدنا ومتصلة بالأرض تحتها وفوقها، بينما نعتقد نحن أننا مركز الكون، ولكن من منظور الشجرة فكل شيء مترابط وجزء من نظام بيئي)، شافاك روائية تركية تكتب باللغتين التركية والإنجليزية، ترجمت أعمالها إلى ما يزيد عن ثلاثين لغة، واشتهرت بتأليفها رواية “قواعد العشق الأربعون” سنة 2010. وحصلت روايتها الأولى “الصوفي” على جائزة “رومي” لأفضل عمل أدبي في تركيا عام 1998.

كأنما تعلمنا كيفية اكتشاف اغلب الحيل السردية المتاحة أمام المؤلف، وكيف يتخفّى وراء “شجرة تين” ويسرد لنا التاريخ المقموع والمخفي من تلك الحرب الأهلية “التركية/ اليونانية” والتي باتت اليوم من تاريخ يصعب القراءة فيه، لان جميع الأطراف السياسية قد اخفته بعد أن ظلمت الشعبين ظلما كبيرا نتيجته بحار من دم الأبرياء. في  الوقت ذاته تجعلنا شافاك على يقين اننا أمام لاعبة متمرسة تعرف كيف تظهر النصوص البليغة، بعد المسكوت عنه. وتعلمنا الكثير، بفضل جرأتها وغوصها المتعمّق في متون تاريخ حوض الشرق المتوسط، الذي غصّ بالصراعات السياسية الإقليمية، وترك مساحات واسعة من المقموعات بين مختلف الملل والنحل والطوائف، ويجب ان نعيد النظر في الاحداث التاريخية الجسيمة التي مرت بنا وجعلت تلك الاطماع بلداننا في حال يرثى لها. حيث واقعنا السياسي -هو- الأكثر غنى من واقع رواية “جزيرة الأشجار المفقودة”.

عندما نقرأ رواية “جزيرة الأشجار المفقودة” نفهم الأداة الروائية المهيبة التي تمسك بزمامها “اليف شفاك” صاحبة الصوت الجهور الذي يشير الى غاياته، من دون تشتت، وعملت بحذر وعناية متفاديّة مقصّ الرقيب الفكري الذي ما فتىء يخنق الأسطر، ويقمعها محاولا تغيّيب الحقائق، وتوجيهها نحو الجهة غير الفاعلة. الرواية من اصدار هذا العام 2022 عن دار الآداب، وبترجمة رائعة بقلم “احمد حسن المعيني” المترجم العماني الحاصل على دكتوراه في الترجمة، والمُحاضر في جامعة صُحار. وفي حصيلته ما يربو على أكثر من 14 كتابًا مترجمًا.

عرض مقالات: