اخر الاخبار

هذه رواية لن تنسى أبدا، وكاتبها كان يحلم في احتراف عزف (البيانو) لتعلقه الشديد بالموسيقى الكلاسيكية، إلا أن إصابته البليغة بشظية أتلفت له الرسغ الأيمن خلال الحرب العالمية الأولى، جعلته يتحول من حبه الكبير إلى الكتابة، وكان ناجحاً فيما أنجز، من روايات مهمة فوصف بـ(قوة ملاحظة دقيقة، واقعية غير متكلفة، الشك، التشاؤم، ارتباط عفوي بالمجتمع وهمومه). أما هو فكان يعبر عن تميز كتابته، وبساطة لغته، (لا يمكن لأحد أن يصدق الصعوبة التي أخلقها لنفسي، بإصراري على الكتابة بصورة مفهومة، هو نتيجة الجهد، في الصقل الكثير، وفي التبسيط والتعديل)، (أنني أحقق هدفي حينما يتمكن الرجل الذي في الشارع من فهمي).

يعدّ ريمارك احدُ كتاب الروائع الأدبية الألمانية وقد ترجمت رواياته إلى ما يزيد على خمسين لغة، رواية (ليلة لشبونة) الصادرة عام 1962م، (الطبعة العربية الأولى 1983م).

 بدأت أحداث الرواية في سنة 1942م، وفي خضم الكثير من الاضطرابات، والتحولات الخطيرة الخاصة بـ(أوربا)، بسبب بدء الحرب العالمية الثانية مع (ألمانيا)، بطلها مواطن ألماني يحاول الهروب من (لشبونة) البرتغالية إلى قارة (أميركا)، ولم يكن يملك وصديقته تأشيرة الخروج، ولا المال اللازم لدفع ثمن تذكرتي السفينة، وقد بيعت التذاكر بأكملها. توضح بذلك الاختناق، وضعاً صعباً، وميؤوسا منه. ففي تلك الليلة الليلاء، كان الشاب واقفاً على رصيف المرفأ، يحدق ساهما في نشيد حريته، بعينيه السفينة التي تحمله إلى برّ الأمان، فاقتحم عليه خلوته رقيباً قد تابعه من مكان إلى آخر حتى استوقفه، غير معروف له، عرض عليه صفقة العمر، بأن يعطيه التذكرتين اللتين تخلصانه وحبيبته إلى برّ الأمان، مقابل الاستماع إليه، لمدة ليلة واحدة، حيث سيروي له قصة حياته التراجيدية. لحظتها تذكرت حصان (تشيخوف) العظيم الذي استمع إلى حوذيه ليلة كاملة وهو يروي قصة موت ولده الأليمة، وهذه (القصة) كانت أليمة أيضا، كتلك. فهي قصة هروب أحد الرافضين لمناهج التعنت الفاشي إلى خارج ألمانيا، وتخللتها قصة حب لن تنسى، تبدأ قصة الرجل الذي يدعى (جوزيف شفارتس) بعودته إلى بلدته (أوسنابروك) سرّا، لرؤية زوجته (هيلين). و(هذا ليس اسمه، بل اسم صاحب جواز السفر الذي يحمله بطل الحكاية)، لأجل اللحاق به، بعد أن يخططا معا للهرب إلى الولايات المتحدة الأميركية. تبدأ رحلتهما بالهرب من أجواء الفكر الواحد الطاغي بالخوف، والعنف، والألم، فالكثير من الحكومات الفاشية منذ ذلك العصر، ما زالت تحافظ على تقاليدها العريقة في اختطاف المواطنين وإخفاء آثارهم. (لاحظت النظرات المندهشة، ولكنهم تأكدوا من جدية موقفي ابتعدوا عني واخذوا يتحاشونني. العائد إلى ألمانيا يعني: المتنقل من معسكر لآخر، يعني جاسوساً، فهل يعقل لرجل أن يعود لبلد يحتقر حاكميها؟ ازدادت الشبهات بي لكوني مكثت لفترة طويلة في الخارج وبعيدا جدا عن ألمانيا. أخذت اقرأ التساؤلات في عيونهم. بماذا سيشي هذا الشخص وبمن؟ فجأة شعرت بالوحدة بعد أن تحاشاني الجميع وكأنني قاتل حقيقي. لم أستطع توضيح موقفي خاصة وإنني نفسي أصبحت أصاب بحالات تعرق وضعف شديدين نتيجة الخوف خاصة عندما أفكر جديا بما أنا مقدم عليه كيف لي أن أوضح لغيري ما أنا مقدم عليه- الرواية ص24). وحينما يصلان أخيرا إلى حدود مدينة (لشبونة)، تموت (هيلين) المصابة بالسرطان، ولم تك قد أعلمت زوجها بمرضها الناخر، فقد حاولت طيلة الرحلة إخفاء معاناتها عنه، لتتمكن من دفعه إلى حريته، رغما عن كل شيء، لأنها تعرف بان حبهما الكبير هو الذي سيحقق لحبيبها حريته، لكنها في النهاية وعندما استنفدت طاقتها الجسدية والنفسية قامت بالانتحار. لتخفف عنه العبء، فتكون المأساة أكثر وقعا في نفسه، بسبب موت (هيلين)، يفقد رغبته بتحقيق أمله الذي كلفه غاليا، ما كانت الآمال الكبيرة ليست مبنية على الفردية المطلقة، و(لكنها تربط بمن يحيط بنا، وما يستحق منا هو أن نكون معهم إلى آخر المشوار)، فقد عدل (شفارتس) عن حلمه بالذهاب إلى (أميركا) وبدء حياة جديدة حرة، وبفقدان الدافع الأكيد لتحقيق ذلك الحلم، بصحبة من يحب. والبديع في تبرير حكي الحكاية بان (شفارتس) قرر أن يروي قصته لأحد ما كي يحفظ ذكراها، فهو يدرك بأنه يريد لقصته أن تبقى حية في ذهن شخص ما، مثلما فعل « أنطون تشيخوف» ببطله، بدلا من تحولها إلى رماد النسيان. كانت الرواية صورة مأساة الحرب الحدودية التي كنا نعيشها، وكانت تلفنا بمحاورها الدامية. تجعلنا أقرب إلى تلك الشخصيات الحقيقية، فليس من السهل على القارئ التواصل مع الشخصية المحورية، مقتنعاً، إلا لكونه كان يقرا أحداث يومه من خلالها (ترجمة ليلى نعيم)، لكون المشاعر كتبت بطريقة حقيقية وإنسانية، واستطاعت الترجمة أن تخترق الحواجز اللغوية، وتصل إلى أي منا مهما كانت لغته، كونها ذاكرة حقيقة للشعب الألماني، فهذه الرواية ليست مجرد فعل هدفه التشويق، أو الإثارة، فبعد قراءة بضع صفحات، يعرف القارئ بأنه يدخل في عمق الحياة وصدمتها، ويعيش مع قصة حب نبيلة تمثل جميع المعاني الإنسانية. حيث كان بطل الرواية قد عاش حياة كاتبها، أو كاتبها عاش حياتنا، وقد مرّ بظرف بطلها، فكلاهما مهاجران، وجواز سفر (شفارتس) يحمل تاريخ ميلاد (إريش) ذاته، وينتميان إلى البلدة ذاتها (أوسنابروك). وقد حمل الكاتب حزنا كبيراً من جراء قيام النازيين بإعدام أخته في برلين في عام 1943م وكان حينها في الولايات المتحدة، وقد قال القاضي النازي لشقيقة (إريش ماريا ريمارك) خلال المحاكمة، (ربما تمكن أخوك من الهرب منا، إلا أنك لن تستطيعي وستدفعين ثمن خيانته، اليوم وليس غداً!!). (علماً بأن مدينة (أوسنابروك) الألمانية التي ولد فيها ولد في عام 1898م، خصصت فيما بعد ذلك جائزة للسلام باسمه منذ عام 1991م- عن مجلة المجلة الألمانية). فقد أنقذ الكاتب حياة بطل روايته عدة مرات، ولم يكن ليتسنى من دونه النجاة من الحرب، فظلت ليلة الرواية كإحدى الليالي الطويلة في التاريخ، وبقي بها كتابها محتفظاً بمكانته الرفيعة ضمن الأدب الإنساني، رغما عما واجهته مثل تلك الأعمال الصادقة الفاعلة من عواصف الاحتجاج، وتقليل الشأن، وخاصة من قبل الألمان النازيين، المختلفين في المنهج، والرؤية. حيث لم تك تلك الروايات إلا لتحمل وجه التاريخ الحقيقي الذي غفل عنه المؤرخ، فدونته الحقيقة، إذ صورت قبح الحرب، لقد أبدع (إريش ماريا ريمارك) في رواياته جميعها (أنا لم أسع إلى إلقاء - نظرة طائر شاملة- أو خاطفة على الحرب، بل قصدت إلى أن تكون - نظرة دودة- تتلوى بين الخنادق وتعيش التفاصيل، وتنقل إلى القارئ أدق المشاعر والأفكار والخلجات- مقدمة طبعتها الأخيرة). وفي مقابلة أجريت معه في عام 1946م، ويؤكد مناهضته للحروب. (نحن نؤمن بالمستقبل.. المستقبل الأفضل. العالم ينشد السلام).

وأما الجائزة الرفيعة، تلك، التي تمنح كل عامين للأعمال الأدبية أو الفنية أو العلمية المساهمة في تكريس السلام. ككاتب مبدع، احتفظ بشعبيته خلال الأربعين عاما من حياته العملية، قد أمضى معظم حياته متنقلاً بعد أن عاش طفولة هادئة سعيدة في مدينته قبل بدء الحرب العالمية الأولى، فهو من الكتاب الذين كان لهم تأثيرا قويا على جيل الكتاب التالين. كونه أول من وضع أسس كتابة أدب الحرب في القرن العشرين، وتجلى هذا التأثير في روايته الأولى الشهيرة التي نشرها في عام 1920 (كل شيء هادئ على الجبهة الغربية) ويبين فيها رأيه بأن أخطر ما في الحرب أنها تدمر قيم العلم والأخلاق. وتجعله بدائياً، وتخلف في خرابها الذي لا يمكن أن يستوي على حال، إذ تأخذ منهم أنبل ما فيهم من خصال. كذلك رواية (وقت للحب ووقت للموت1929م)، (وقد ساهم هذا العمل في تغيير أفكار الكثير من المسؤولين في الحكومات. وسيان ما بين الأمس واليوم، أمس يوم الروائي واليوم (الحكومات ذاتها)، في كل واجهات الأرض منعت الجنسية عن كل مواطنيها الرافضة نهجها. وقامت الحكومة الألمانية بتجريده من جنسيته في عام 1939م). بعد نشرها بعام وصودرت تلك الرواية من الأسواق وحتى المكتبات الخاصة، وكذلك (الأفلام) التي حملت مضمونها، من قبل النازيين، وكذلك كتبه اللاحقة كـ (طريق العودة) التي سجل فيها حياة الجنود بعد انتهاء الحرب، وما حلّ بهم من دمار نفسي. بعدها استقر في سويسرا في عام 1931م، وهناك كان قد كتب (المسلة السوداء)، و(قوس النصر)، و(الرفاق الثلاثة1938م)، وقد حولت معظمها إلى أفلام سينمائية ناجحة جدا، وظهر الكاتب نفسه في لقطات فليم (كل شيء هادئ في الضفة الأخرى)، المأخوذ عن رواية له بالاسم نفسه. في 25 سبتمبر 1970 توفي في مدينة (لوكارنو) مقر إقامته في سويسرا، حيث دفن في منفاه.

 لذلك فهي ليلة أحداث لا تمر كبقية الليالي، تجبرنا على القراءة فيها. ليلة تروي ذاتها عن العنف الذي كانت أوربا تتذوق مرارته. ليلة مشوقة في لشبونة عن احداث من الذكريات، ريمارك عاش في ظل ألمانيا النازية وهرب منها الى أمريكا وترك فيها أختا أعدمت سنة 1943 بسبب الهروب، وتركت أعماقه مهدمة كبئر غطاه التراب، وجاءت الرواية كتابة لتنبش تلك الليلة التي باتت علامة «ليلة لشبونة» في عامة الأدب الانساني.

عرض مقالات: