اخر الاخبار

رواية “نساء” للكاتب الأمريكي من أصل ألماني “تشارلز بوكوفسكي” من بين الروايات المهمة في الأدب العالمي، لا لأنها تدخل في حالة الضياع، وتحلله وتكشف بواطن العلاقات بين افراد المجتمع الامريكي، المتمثلة بالصورة الحسيّة وانما من أجل أن تحلل المعنى الشمولي للضياع الشخصي، وترسم ابعاده بكل وضوح لتعطي القارئ انطباعا عن حقيقة انتماء الانسان، والذي هو على الدوام بحاجة الى نهج قويم في حياته يسدد اليه الخطى، ويمضي تحت نيره كالخط المستقيم الى هدفه، بوازع أخلاقي لا يكتنفه الغموض.

في هذه الرواية الجريئة يواجه القارئ عدة وجوه لنساء منتهكات، قد غدر بهن دهرهنّ وجعل كل منهنَّ تعلن عن وجودها الاجتماعي في لحظات هزيمتهنّ الفردية خاصة.. النساء اللاتي تأرجحت بهنَّ الحياة وأبعدتهنَّ عن آمالهنَّ في العيش الكريم، وطموحاتهنَّ في الاستقرار الرغيد.

وجوه احتاجت الى تحليل واعٍّ مدرك لما يعنيه التشتت والضياع الذي بات سمة رئيسة في هذه الرواية البديعة. حيث كان الروائي عارفا بحدود شخصياته وتوجهاته والتعبير عنها بسرد واضح ينمّ عن قدرته في تنظيم عمل يمتاز بتقديم معلومات دقيقة عن تلك الترابطات وبين ماهية العلاقات التي تربط الطرف الآخر كشريك في الحياة. وغالبا ما نعهد كتاب الرواية الكبار يجيدون اقتناص تلك الدقائق من الحياة، ويعرضونها بوضوح امام القراء، لا تخلو من النظرة الثاقبة. كلما كانت الملاحظة دقيقة، فأنها سوف تشمل الإنسانية جمعاء. خاصة الأدباء الذين يعكسون تجاربهم الشخصية في رواياتهم، ويدقّقون في العلاقات القريبة باحثين بوعي عن الأنموذج الأمثل للغاية التي تجعل أعمالهم على أكمل وجه. حيث التجربة الشخصية في الرواية هي التي تجعلها أكثر غنى من عالم الخيال، والأكثر ابداعا من ذلك مزج الشخصي بالخيال حتى يمنح الرواية تقانة العمق المعرفي بمجريات الموضوعة التي يعملون عليها، وسوف تكتسب بعداً يضاف الى رصيدها الابداعي.

عاش “بوكوفسكي” (1920-1994)، يقاسي من مرارة الوحدة في وقت يريد ان يتفرغ للكتابة بوصفها مشروع حياته، وفرض عليه ذلك الالتزام بالكتابة ان يعيش وحدته المطلقة مع عالم مزدحم بالشخصيات التي تحضر من الخيال حتى تشاركه المكان، والحياة الافتراضية التي يعيشها. هناك علاقات شخصية اخترعها لنا ليبدد مشاعره تجاه تلك الوحدة التي كان يشكو منها ككاتب متوحد مع عمله الفكري. ان حياة الكاتب غالبا ما تغصّ بالحيوات الانسانية التي تساكنه ذهنه، وتزاحمه كل تنفسه. وهذه الرواية محورها  كاتب- الكاتب نفسه وعلاقته المباشرة مع الناس حيث كان يعمل ساعي بريد أكثر من تسع سنوات، وقد تعامل إنسانيا مع الاف الشخصيات الحيّة التي يستفيد منها، وجعلها شخصيات خيالية، ثابتة على صفحات روايته.

حيث وجد المؤلف ضالته في شخصية “ليديا” كل مبتغاه ليحقق من خلال متابعتها بؤرة روائية استطاع منها ان تكون صورة نسائية شاملة تمثل شريحة اجتماعية واسعة، تخترق التفكير الرجولي بحضورها الباذخ، والمعبر.. تصاحبه مشاويره، وتشاركه نزواته. اذ كانت على قدر كبير من الجمال، ولكنها – مثل بطل الرواية - مدمنة كحول، وفتاة استعراض سابقة، حيث بقيا ينتقلان معا من نُزُل إلى آخر، ودائما يطردان بسبب الشجار والسكر، وذلك لعدم دفع الإيجار، وامتد معهما مشوار التشرّد والضياع، على اغلب صفحات الرواية، وكما تقول سيرته التي كتبها بنفسه: (ولد بألمانيا لأم ألمانية تدعى “كاثرينا فيت” التي تزوجت من “هنرتش بوكوفسكي” الجندي الأمريكي من أصل “بولندي” والذي هاجر بعائلته عام 1880م، إلى “أمريكا” واستقر فيها. كان شابا خجولا ومنعزلًا اجتماعيا بسبب إصابته بحالة متفاقمة من مرض حب الشباب، وكان أطفال الحى يسخرون من لكنته الألمانية وملابسه التي كان والده يجبره على ارتدائها، وأدمن في شبابه المبكر على الخمر، وقد كتب لاحقا واصفا حالة الإدمان المزمنة التي أصابته “الكحول رافقني لفترة طويلة جدا” واصفا بداية إدمانه (كانت السبب والطريق الذي افاد منه للتوصل إلى تفاهم أكثر ودي بشأن حياته)،  وكذلك تسبب ذلك الإدمان بعدم التحاقه بالتجنيد الالزامي وجعله ذلك يتأخر عن تحصيله الدراسي، ولما قبض عليه ودخل السجن عاود إكمال تلك الخدمة حتى أنهى تلك الازمة وتمكن من الالتحاق بمدرسة “لوس انجلوس العليا”، مع دورات في الصحافة والفن والأدب في أوائل عام 1950م حصل على وظيفة في الخدمة البريدية في الولايات المتحدة الأمريكية تعرض لصدمة نفسية بسبب وفاة “جين بيكر كوني”، حبيبته الأولى وأعظم حب في حياته، وقد حول “بوكويسكي” الدمار داخله إلى سلسلة من القصائد التي تنعي وفاتها.

الرواية بترجمة “شارل شهوان” صادرة عن دار الجمل في 536 صفحة من القطع المتوسط، نقلت الينا تفاصيل مهمة من علاقات تناولتها الرواية بطريقة حسيّة، بترجمة أمينة تستحق الإشادة، حيث لم تستثن الكلمات البذيئة التي جاءت على لسان الشخصيات التي كانت تتحدث عن موبقات لا يقبلها مجتمعنا، ولا مقص الرقيب العربي. علاقة بطل الرواية بتلك النسوة جعلت المتن الروائي يفترش فضاء من العلاقات التي لا يستطيع ان يتحدث عنها الكاتب العربي مثلما خاضها “بوكوفسكي” حيث لا تسمح طبيعة المجتمع الكشف عنها وان كانت غربيّة. (العلاقات الإنسانية غريبة. أعني، أنك تكون مع امرأة لفترة، تأكل وتنام وتعيش معها، تحبها، تتحدث إليها، تذهبان إلى الأماكن المختلفة معا، ثم يتوقف الأمر. ثم تأتي فترة قصيرة لا تكون فيها مع أي أحد، ثم تأتي امرأة أخرى، وتتشارك معك، ويبدو كل شيء طبيعيا، وكأنك كنت تنتظرها وهي تنتظرك. لم أشعر بحال طيب وأنا وحدي، في بعض الأحيان يكون الأمر حسنا، ولكني لا أشعر بحال طيب أبدا- الرواية).

اعتمدت الرواية بشكل عام على الابتزاز الأخلاقي، والذي لا تكتمل اركانه الا بين جدران تلك المجتمعات المفتوحة بتفاصيل العولمة، وما فرضته “المافيا” على الفنان العظيم الخالد “فرانك سيناترا” لكي يروّج في حفلات أغانيه، عبر مشاهد شرب “الويسكي” و”السيجار المستورد” من على خشبة المسرح بحجّة كسر القيد، ولكنه فرض بغية الدعاية مقابل مساعدته للحصول على أول بطولة لفيلم في حياته الفنية، وهي التي دفعت به الى الشهرة، رواية “العراب” المهمة جدا لكاتبها الأمريكي الإيطالي الأصل “ماريو بوزو”. حول المافيا التي لا تقدم خدمة الا مقابلها خدمة لصالحها.

لذلك بدت رواية “نساء” تشبه مذكرات عن ملاحظات دقيقة عن عدة عاهرات يغزوَّن حياة بطلها السكير المدمن على الشراب، الذي يذكر شرابه بامتداد صفحاتها. فما أن ترمي حجر في بركة حتى يصبح ذلك الحجر مركزا أمامك لدوائر متسعة حتى تنتهي، او تظن انها انتهت، ولكنها تبقى تتسع مع ارتطام الحجر بوجه الماء فقد أحدث اهتزازا جعلها تستمر بالاتساع حتى وان كنت لا ترى اتساعها اللامتناهي. كما كانت تقول “اليف شفاك” عما تفتتح به الروايات المهمة. هذا الاحتدام يحدث تقريبا عندما يشرع المرء منا بكتابة رواية، وتبقى تلك الكلمات الأولى هي الحجر الذي ترميه في بركة ماء موجودة على سطح الذاكرة، تلك التي تجمعت فيها القطرات وامتلأت لتصبح بركة تودّ لو تلقمها حجر، وما ان يحدث ذلك حتى تتورط بتلك الدوائر المتداخلة الى ما لانهاية.

وسوف نكتشف ان حالة “هنري” بطل الرواية الشاعر والصحافي تعجّ حياته بالفوضى واللا تنظيم، ويكتب بإرتجال وعفوية تقوده الحياة الى أمرأه تبقى بصحبته، وبواسطتها تتسلسل علاقاته مع نساء اخريات، يخوض بهن صفحات لذته، لأجل ان يعطي للقارئ صورة بالغة الوضوح عن تلك الطبيعة للنسوة الأمريكيات، وأبرز انشغالاتهن بما يأتي اليهن من لذّة عابرة، وإقامة عدة علاقات حميمة عابرة مع رجال عابرين. (وكنت أحاول أن أصير كاتبا. كنت خائفا وكنت أشرب أكثر من أي وقت مضى. كنت أحاول كتابة روايتي الأولى. كنت أدخن السيجار الرخيص وأدق على الآلة الكاتبة وأشرب وأستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية من الراديو حتى الفجر. وضعت لنفسي هدفا ان أكمل عشر صفحات كل ليلة.

لبوكوفسكي كتب اخرى منها: “الاحتراق في الماء، الغرق في اللهيب”: قصائد (1955-1973)، “الحب كلب من الجحيم: قصائد (1974-1977)، “رواية: سيقان، أرداف، وما خلفها” (1978)، “رواية: هوليود (1989)، “رواية: شرارات (1983)، “حرب طوال الوقت: قصائد 1981-1984، “رواية الليلة الأخيرة للأرض 1992، “رواية مكتب البريد 2014”.

عرض مقالات: