اخر الاخبار

في مجمل اعمال الناقد، والروائي “الكوبي” المولد و”الإيطالي” النشأة، “ايتالو كالفينو” (1923- 1985)؛ يجد القارئ كاتبا له وجهة نظر مختلفة كثيراً عن كل سابقيه ومجايليه من المهتمين بالشأن السردي في العالم. بعد ان بات له موقفاً خاصاً من معظم الروايات التي تغصّ بها رفوف المكتبات وخاصة الروايات الساذجة التي كتبت لغرض تسويد الصفحات. وهي بلا تقنية او مهارة او تفرد في شكلها.. روايات خالية من العلم ليس أكثر.

 وبعد أن بات قراء الرواية يتفقون بانها تقدم إلى الإنسانية آفاقاً جديدة، حكاية، ومعلومات، وأنها كشف عن جوهر موضوعة مهمة فيها أفكار كبرى تهمُّ كل شعوب كوكب الأرض، وهذه الرواية ليست كبقية الروايات السالفة، لأنها تسخر “بالمعنى الحرفي الدقيق” من كتاب الرواية التجارية، ليتعلم القارئ منها كيفيّة القراءة النابهة.

رواية (لو ان مسافراً في ليلة شتاء) تشغفك بربطها بين التخيّل المكاني، والاستنتاج العقلي حيث القارئ في قارة منعزلة “نحن نعيش في عالم نائم وعلينا أن نوقظه بواسطة الحوار مع الآخرين، وما إيقاظ العالم إلا شجاعة الوجود بأن نوجد ونعمل ونبحث، نخترع، نبدع، نخلق”. بعد أن تأثث الفهم الانثروبولوجي بالتمسك به كوطن، أي المكان الذي نحبه، ذلك المكان الذي ينجذب إلى الخيال والذي لا يمكن أن يبقى مكانا دون ألوان قزحية على وفق هوانا، وما تمتلئ به الذاكرة الجماعية.. حيث كل كتاب تقتنيه، يشكل بحثاً عن قرين لك متشابها معك في التوجه عما تبحث من مادة، الانسان هو متآلف مع كمية مواد مصنوعة من قبل انسان مشابه له، كما قارئ الكتب، الذي لديه نهم متواصل في نوعية تروقه من القراءة. (هالو، آه، انت الانسان الفاضل الذي التقيته في محل الكتب ٧٧) كل فصل بمحطة، ولكنه يذكر علاقة الكتب بالسفر، وقراءتها تتداخل مع تك المحطات.. لا يسمي محطة في مدينة حقيقية، ولا موضعا معينا، ولكنه من خلال الاشارات نكتشف انه يرمي ملمحا انه مكان آخر وزمان آخر في محطة اخرى، وكان كل كتاب هو واحدة من تلك المحطات. (وهي ذهنية بالأساس، والتقدم في القراءة مسبوق بفعل يعبر عن هذه الصلابة المادية للكتاب، ليمكنك من النفاذ الى جوهره اللامادي، مخترقا ما بين الصفحات من أسفل- الرواية 66)

رواية تبحر في أسرار القراءة عند “ايتالو كالفينو” التي يكشف لنا كناقد حاذق، يعرف ما عليه في مشوار ستكون في صحبته حتى نهاية كتابه الشيق. الرواية تبدأ من محطة سفر. ويكتب عن همّ كتاب يتسلسل في تلك المحطة بكل احتمالاته، ويظل يتنقل بافتراض انه يسافر، وانه سوف يسرد للقارئ أحداثاً مشوقة تجري في أمكنة جديدة، ولكن الحقيقة إنها رحلة افتراضية تدور في مكان واحد، وهو ورقة بيضاء تنتظر من كاتبها الحرف تلو الحرف، ولا تتوقف عند التقاط الصور الموجودة كعلامات مؤكدة لتلك المحطة المفترضة. وإنها عالم متكامل ينزل تدريجيا الى العقل الذي سوف يلتقطها، ويتعامل معها كمحطة حقيقية، وليست افتراضية.

إنها لعبة سفر سردية تكشف لنا ما يجري في عقل المبدع، انه يشرح عمليا في هذه الرواية أسرار الأبداع، وكيفية استثمار تلك الأجواء في مكان، هو النقطة الحقيقة لانطلاق تلك الكتابة. إنها نقطة تاريخ معاصر كمحطة سفر تنطلق بنا. انه يطرح تشريح المكان، بجميع مرئياته، وما يحتويه هو محور الحكاية التي سوف يكتبها لنا، وهي بالأصل مكان أو نقطة مضيئة في ذاكرة كاتب يستعرضها لنا ككاتب، وبذكاء منقطع النظير، ليكوّن بداية تلك الرواية. (سماع شخص ما يقرأ بصوت عال مختلف للغاية عن القراءة بصمت. فعندما تقرأ، بمقدورك ان تتوقف او ان تقفز فوق جمل: انت الذي تحدد معدل السرعة، وعندما يقرا شخص آخر، فمن الصعوبة البالغة ان تضبط انتباهك على ايقاع قراءته: الصوت اما ان يسير بسرعة عالية، او ببطء شديد- الرواية ٩٩). رواية تطبيقية، تبرز فيها موضوعة الظاهراتية Phenomenology”” التي عنيّ بها الفيلسوف “أدموند هوسرل”، حول الوعي الذي يسير دائمًا إلى موضوع واحد بخط مستقيم اسماه “الظاهر/ المعلن/ الواضح” باعتبار المعرفة ب المعلن موضوعًا اجتماعياً واقعيًا تجريبيًا وأنه (مستقل عن التجربة والمعرفة المحددة أي ميتافيزياء)، وتقترب كثيرا من ظاهرية الفيلسوف “غاستون باشلار” في موضوعة التخيّل الشاعري وفلسفة الجمال والفن، منذ أن ابتدأها في كتابه الشهير (جماليات المكان) عام 1957 مع الطروحات التي تضمنها كتابه الأخير (شاعرية أحلام اليقظة) عام 1960. إذ عمل “ايتالو كالفينو” في هذه الرواية الرائعة على المخيلة التي تعيد تثبيت المكان عبر منظومة السرد. فكتب في كل فصل عما ليس له علاقة بالفصل الثاني سوى انه يذكر بسرده انها الرواية التي يروي فيها ما يستطيع ان يرويه عما يبشر به ما بعد الحداثة، بعد ان اجتازت الحداثة مفاهيما باتت تعد نفسها لما بعدها، من أجل ان تبقى تقول قولها. وكأنما شهرزاد في ألف ليلة وليلة تروي لشهريار حكايات ممتعة غير مترابطة هدفها التسلية، ولكنه يؤكد انه يقرا مع قارئه ويتسلى معه عبر امثلة سوف يعتمدها النقد في شروحاته.. (القصة التي تقرأها تودّ ان تقدم لك عالما مجسما، كثيفا غليظا، مفصلا ومسهبا. وانت مستغرق في قراءتك67)، واستنادا الى اهم الشروط الفنية التي عهدناه في الرواية، يشوبنا الحذر الشديد عند تجنيس محتوى هذا النص الذي يكتبه “اياتالو كالفينو” وهو المهتم في الستينات بالمدارس النقدية والفلسفية الجديدة في فرنسا خصوصا، بـ”رولان بارت”، و”جاك دريدا” على وجه الخصوص. وقد أثرت وجهات نظرهم كثيرا على طبيعة أعماله الروائية ومنحتها عمقا فلسفيا أسبغ عليها نظرته إلى الأشياء والعالم جدية ظاهرة. وفصول روايته تطبيقات حيّة يرينا فيها الحلقات التي يجب ان يؤكد عليها السرد، وخاصة الاهتمام بوصف المكان، وكأن المكان هو خط الأفق الافتراضي الذي يعيّنَهُ الرسام في عمق لوحته، ودائما هناك بشر لطفاء، يشغلهم التفكير في العالم، ربما يتجاوزون حدسهم، ويتركون أنفسهم يسترشدون بالشكل والمنطق الداخلي للظواهر فقط. نعم؛ هؤلاء مبدعون وشجعان في مواجهة المنطق الصارم، وواثقون بأنفسهم كفاية للاعتراف بهزائم حتمية بعد إحباط قصير ولأن الحقيقة حاضرة رغم كل شيء، وتتجاوز لديهم كل شيء آخر. هم نادرًا ما يحرزون مكانة الخبير، ليسوا متعطشين حقًّا للمجد. وفي معظم الأوقات يكونون قانعين بدور هادئ لا ينتج عنه سوى شحم يحفظ دوران عجلة العالم، لأجل ان تتيسر أحوال الدنيا، والكاتب “ايتالو كالفينو” هو واحد من بين اهم الكتاب الذين لا يتنصل من تحمل المسؤولية، ويعد نفسه مواجها حقيقيا لبعض الكتاب الذين يثقلون المكتبة بالكتب التافهة.. منذ ان ظهرت روايته الثلاثية “أسلافنا”، وقد استغرب الكثيرون من متابعيه عدم حصوله على جائزة “نوبل” وموته في الثمانينات وذهابها بعد ذلك بسنوات قليلة أي عام 1997 الى مواطنه “داريوفو”، اذ يمتاز بتخصصه “رواية الخيال التاريخي، والمزج الرائع ما بين الواقع والأسطورة، عبر لغة جميلة وسرد روائي محكم”.  وسبق ان قال عنه كارلوس فونتيس: إن القارئ لا يجد صعوبة في أن يدرك بأن رواية ما غير موقعة هي من روايات الكاتب الإيطالي “إيتالو كالفينو”. إذ يكفي بعد قراءتها أن يشعر بالحسد تجاه هذا الكاتب الذي استطاع أن يهتدي إلى الفكرة قبل أن تهتدي إليها أنت. وهكذا تكون كل رواياته، حول ما ترغب أنت أن تكتبه. الترجمة خالية من أية شائبة، وقام بها “حسام إبراهيم”.

عرض مقالات: