اخر الاخبار

ولدت الكاتبة “اوكتافيا بتلر (1947- 2006)  صاحبة الرواية الرائعة “نسب” ببشرة سمراء؛ ولم تختر اللون بمحض ارادتها، مثلما أي انسان لم يختر حتى المكان الذي ولد فيه. موضوعة دقيقة لرواية شفيفة، محورها العنصرية المقيتة، جلّ رسالة الادبية، التي عانت منها كما عانت منها فئة بشرية ليست بالقليلة، ولم يكن ذلك الا حساب بيولوجي، استغل بخبث لإشعال منازعات كبرى، هدفها تقييّد الانسان، وتحييّده عن مساره الحقيقي، وغالبا ما كانت مكونات المجتمعات اعراق مختلفة، وكانت بيئة أساسية لتفعيل الشرّ بين الانسان وأخيه. “نسب” رواية تثير الأسئلة حول إنسانية الانسان، وتشبثه بالقيم النبيلة من أجل ان يبقى الانسان انساناً. “ن الإنسان هو محور كل شيء، فلولاه لما وجدت الحضارات، والتاريخ، والدول، والمدن، والمجتمعات، والعادات، والتقاليد، والأعراف التي جعلت منه إنسانًا، وتحتّم عليه الكثير من الموروثات”، حيث كانت محور رسالتها على هذه الأرض، والهوية الرئيسة لها ككاتبة مهمة من بين كتاب العالم الذين فضحوا العنصرية المقيتة، التي كانت؛ ومازالت تسري في جسد المجتمعات كالسرطان، وتنخره من الداخل. تذكرنا كثيرا بكبار نجوم الكتابة ضد العنصرية؛ مثل: “توني مورسون”،”ريتشارد رايت”، “مارجريت واكر”، “ديفيد برادلي”، “شيرلي آن وليامز”، “تشارلز جونسن”، “إشمائيل ريد”، “ و”هاريت ستو” صاحبة رواية “كوخ العم توم”.

واتخذت الكاتبة على عاتقها الوثائق التي تتبع النهر من المنبع الى المصب، وكأنها استحدثت لعلم السرد ميزاناً تقاس به الرواية ليصبح أنموذجاً يصطلح عليه الكشف السردي المُفَصَّلْ في تأصل العنصرية، وتفرعاتها،

رواية “نسب” لم تعتمد وحدة الحكاية الواحدة، كما عهدنا في عرف الرواية العالمية؛ فهي لم تجعلنا نتابع حكاية مشوّقة، لها بداية، ونهاية كما تنتهي الحكايات المترابطة حيث يوحدها الحدث، فالحدث مهم جداً في تقنية جنس الرواية، مع ذلك تجاوزتها وجعلت القارئ مشدودا حتى يعرف كيف تنتهي الحكاية. مثلما حالة ذهان تتغير الأمكنة وتتغير التواريخ حيث تجري الكاتبة عدة مقارنات ما بين الماضي والحاضر في المكان نفسه. الرواية توزعت على وحدات رئيسة “مفتتح”، “ النهر”، “الحريق”، “السقوط “الصراع”، “العاصفة”، “الحبل”، و”الخاتمة”.. حسب ترجمة منى كريم. “مفتتح” الوحدة الأولى من الرواية باغتت القارئ بمواجهة لغز مثير ان “البطلة المحور” للرواية قد فقدت ذراعها نتيجة العنف الاسري، وكأنها تعمدت ان تنقله من داخل اسرة مكونة من زوج وزوجة، لم ينجبا، وانهما يعانيان من مشكلة العقم، وقد تطور الامر بينهما الى ان تحدث بينهما جريمة فقدانها لذراعها، بطريقة وحشية تدل عليها الصورة المنقولة من المشفى، وبرغم انها لم تتهم زوجها “كيفن” مباشرة بهذه الجريمة الا انها تشير اليه من دون ان تسميه، وتمتنع عن ذكر ذلك الى المحققين الذين قدموا من اجل القضية، فتتفرع هذه القصة الى كابوس من اجل انقاذ طفل اسمه “رافوس”، وكأنه خيال تداخل بصري يوجه محور الرواية الى كيفية المحافظة على ذلك الطفل حيث تلف الطفل معها بالبطانية نفسها التي تلف به جسدها بعد ان فقدت ذراعها ولم تكمل في الوحدة الثانية ما بدأته في الوحدة الأولى. نعهد “رافوس” قد وجد بينهما كابن، وينبغي الاعتناء به والاهتمام بمصيره مثلما يحرص الابوان على ابنهما. الرواية فيها فنتازيا التنقل، وهذه الفنتازيا تربطها بتواريخ، مثلا تاريخ دخول أصحاب البشرة البيضاء الى أمريكا وأيضا تواريخ أشهر المنازعات الكبرى، وبالتالي أيضا كيف تم جلب أصحاب البشرة السمراء من افريقيا لأجل الاستعباد. عدت هذه الرواية من بين الروايات التي اعتمدت على الكثير من الوثائق التي تخص العنصرية التي كانت فاعلة بشكل علني على السطح في المجتمع الامريكي، ففي الرواية العديد من الإشارات الدقيقة حول الكيفية التي بدأت بها تجارة الرقيق، على أساس البشرة السمراء، واستطاعت الروائية ذكر العديد من الأسماء التي حملت اسم “رافوس” فهو تارة هو المتحرر الأول في الولايات المتحدة من رَق العبودية بواسطة ماله الذي اشترى به نفسه، و”رافوس” هو اسم ثان لوثيقة عهد كتبها رجل يحمل الاسم كان قد شكل كابوسا على الأمريكيين حتى استطاع الحصول على تحرير مجموعة كبيرة من العبيد (قاطع طريق قريب الشبه من روبن هود). يمر ذكر “رافوس” متكررا في أكثر من شخصية وكأنها شخصية رئيسة من بين شخصيات الرواية المتعددة. وفي كل مرة يشير تاريخيا الى اسم آخر ورد ذكره في الوثائق العديدة للعبيد. ومثلما يؤكد أريك فروم: “أن الناس يعيشون في وهم، ألا وهو السعي وراء المُثُل العُليا التي لا وجود لها بين الحروب والشرور التي تسود العالم، واتفقوا على تغيير تلك الأوهام، بتغيير المجتمع وبالتالي سوف تتغيّر طبائع الناس”. باتت هذه الرواية صرخة عالية الصوت، في وجه الظلم بسبب اللون والعرق. اذ تعتبر “أوكتافيا بتلر” المولودة عام 1947 لأسرة فقيرة في “باسادينا ولاية كاليفورنيا”، واحدة من أهم كاتبات/ كُتَّاب الفنتازيا. تصف نفسها بأنها: “غير اجتماعية ومرتاحة بذلك.. متشائمة، مسيحية ميثودية سابقة؛ مزيج، كالماء والزيت، من الطموح والكسل وعدم الثقة واليقين والحيوية - الرواية”. وقد أجمع النقاد بانها “تطرح أعمالها، المسكونة بأجواء افتراضية، لتطرح أسئلة متنوعة حول العرق، والجندر، وتراتبيات المجتمع الأمريكي المعاصر، ومستقبل تلك النزاعات التي لا تنطفئ بين البشر”. نجحت الرواية على اظهار تلك الإشارات التاريخية، وتضمينها عبر نص أدبي يشبه التخاطر الذهني، تسافر فيه عبر الزمن كي تُنقذ حياة أحد أسلافها من البيض مالكي العبيد.

اذ عايشت الكاتبة فترة راديكالية في تاريخ أمريكا، حين كان أغلب جيلها من السود ينزح نحو الكفاح المسلح، وينظر إلى الأسلاف باعتبارهم ضحايا أو خانعين. وأرادت للقارئ أن يخلق روابط جديدة مع الأسلاف، قائمة على التعاطف والترابط التاريخي لتطرح مفاهيمَ جديدة عن القمع.

الكاتبة تختلف عن أقرانها في مزجها بين جماليات الفنتازيا وأدب الرحلات ومذكرات العبودية. كما أنها ليست روائية واقعية، كما يمكن ان نلاحظ مسار العمل الذي تشكله الكاتبة في الواقع وتقوم باستغلال السفر عبر الزمن، ما بين الفصول، حيث لا يمكن التثبت من انها تتكلم عن الحاضر، وأنها تحاكم الماضي.

وتجعل من درس القراءة غاية في الصعوبة، لأنها تخلط الأزمنة، وتلعب بالأسماء المتشابهة، فما حدث في الماضي تتعامل معه كحدث حاضر. فلم تأت شخصياتها من كتب التاريخ فقط، بل أنها أيضًا مستوحاة من قصص شخصية في حياتها. مات والد الكاتبة، وهي في سن صغيرة فربتها أمها وحيدة. تتذكر الكاتبة عمل والدتها خادمة في بيوت البيض في “كاليفورنيا”، كما تستدعي قصص جدتها التي انتقلت من حقول “لويزيانا” للعيش في “كاليفورنيا” ضمن ما يسمى بـ “الهجرة الكبرى” لستة ملايين من السود ممن نزحوا شمالًا وغربًا خلال عشرينيات القرن الماضي. يلاحظ القارئ كيف أن لغة الجسد تلعب دورًا مهمًا في العمل، فبعودة الإنسان المعاصر إلى الماضي، يجد نفسه عاجزًا عن التعبير ليكتفي بهزّ الأكتاف، أو الإيماء باليد أو تقطيب الجبين. ولا أظن أن هذا التكنيك عبثيًا، فالعبودية، في الأخير، هي أقصى درجات استغلال الإنسان من أجل الإنتاج عبر إخضاعه وسلبه جسده.  والجيد في هذه الرواية ان الكاتبة تركت هوامش في الرواية توضح كيف يستمر هذا الاستغلال في ظل الرأسمالية اليوم. كما أنها نجحت في دسّ إشارات هنا وهناك إلى أفريقيا أو العالم العربي لأنها تعي كيف يتشارك البشر في الصراع ضد الاستغلال والاضطهاد. تعترف أن العار والغضب غلب على مشاعرها نحو أمها كلما رأتها تُهان خلال وظيفتها، وكيف يقع الواحد في خطأ لوم المظلوم، ومن ثم في حصر المظلوم في دور الضحية التي تجرده من تعقيداته وقدرته المهولة على الصبر والعيش والمقاومة، تارة ينصرها زوجها “كيفن”، وتارة يتحول الى عدوّ مطارد، والانقلاب ذاته يحدث مع شخصية ابنها المفترض “رافوس”، اذ تبينه الابن ال”أكثر شراسة وعدوانية” مع امه. حيث عدت “بتلر” من بين أوائل كاتبات الفنتازيا، وخاصة من خلال تلاعبها بالزمن الروائي كما حدث أيضا في روايتها الشهيرة “مثلُ الزارع”، وتعد ايضاً من بين الرائدات ممن قدمن للجماليات النسوية في الأدب الأمريكي، وأيضًا نحو التنظير للنسوية السوداء. كما أرادت إعادة رسم صورة العبيد، ضد صورة الضحية، وفي آنٍ واحد ضد الصور الكاريكاتورية التي خلقتها المخيلة العرقية عبر التاريخ الأمريكي (مثل ثنائية الخدم وعمال الحقل أو المرأة التي تطبخ نهارا، وليلا في فراش السيد). تركز ككاتبة على الشخصيات النسائية، تعيد قراءة تاريخ العبودية من موضع المرأة، لتستكشف بذلك تقاطع الاستغلال الجنسي والاضطهاد العرقي وسعي الإنسان من أجل الحرية والتعايش.

قالت المترجمة “منى كريم” في المقدمة: لقد اخترت ترجمة هذا العمل إلى العربية لعدة أسباب أولها أننا نفتقد لأدب الخيال العلمي وهي حقيقة لا أظن أنها مجرد مصادفة تاريخية فجذور هذا الجنس الأدبي كبرت مع طموح الإنسان الأبيض لغزو الكواكب الأخرى، مسلحًا بوعد التقدم التكنولوجي، ليصنع جبهة جديدة للاستعمار الغربي. رواية “نسب” هي نموذج مغاير تمامًا يمزج بين الواقعية التاريخية وأدوات الخيال العلمي وحتى أدب الرحلات. المؤكد أنها نجحت في رسم حدود وطموحات ثقافية وسياسية جديدة لهذا الفن في عمل يهدف لخلخلة التاريخ. وتذكر المترجمة: عملت الكاتبة على هذه الرواية لما يقارب من عشر سنوات من عمرها، قرأت فيها مذكرات العبيد والوثائق الرسمية وأرشيف الجمعيات التاريخية والخرائط القديمة، لتقوم على أساسها بالتخطيط لمسارات وتحركات شخصياتها، هذا بالإضافة إلى زياراتها لولاية ماريلاند حيث تدور أحداث الرواية، وسيكون جلياً أمام القارئ حجم العمل الدؤوب والتراكمي الذي بذلته المؤلفة لتشكيل سياقات مكانية وزمانية وثقافية حول الرواية.

أرادت أن تقاوم النسيان وتخلق استمرارية بين الماضي والحاضر، خاصةً وأن هوّة الحداثة خلق الاوهام عند الإنسان المعاصر عبر ذاك الماضي الذي تحوّل وبات بعيداً، ليمحو بذلك معاناة إنسان الأمس، ومحاولاته في المقاومة والنجاة. وذهبت حيث ذهب “فرويد إلى أن الإنسان آلةٌ وتحركه طاقة جنسيّة تربطه بكلِ شيءٍ حوله، وتلك الطاقة التي تحركه تسمى “الليبيدو” و “مبدأ اللذة”، كما ان تلك المبادئ التي وضعها الإنسان وطورها، ليبني عن طريقها الحضارات والمجتمعات، وبالتالي نحن الذين صنعنا الجهل، والفقر، والطبقات، وقمنا بالحروب ولم نكتفِ بذلك، بل ورّثنا تلك الدوافع والمبادئ التي تحركنا إلى الأحفاد جيلًا بعد جيل، ويزداد الموروث من فقر وبؤس وشرٍ وحروب إلى آخره. وتزداد في أنفسنا درجة الموروث كلما زدنا ارتباطًا بالمجتمع وموروثاته”. رواية تفضح الهوّة الأيديولوجية السائدة في مجتمع السود خلال الستينيات والسبعينيات بالمقارنة مع أسلافهم الذين استُعبدوا من قبل البيض. لقد ايقنت الكاتبة ان التهويمات ليست من رسالة الادب، ما لم ترسم صورة، وما لم تتخذ موقفا، وما لم تثبته أو توجه كمعنى. تُوفِيت “أوكتافيا بتلر” عام 2006، بالسكتة الدماغية اثناء عملها على كرسي، وامامها طاولة صغيرة كانت تستخدمها للكتابة.

عرض مقالات: