اخر الاخبار

أولاً: (غزل العراقيات) هو عنوان الكتاب الذي أنجزه هاشم العقابي ، الصادر عن دار (نابو) في بغداد، وتحت العنوان الرئيس عنوان توضیحی (دراسة في أصل الدارمي)، والكتاب كما وصفه مؤلفه (سيملأ فراغاً ملحوظاً في المكتبة الشعبية العراقية)ص9، وأُضيف فأقول: إِنه فيما قرأت - أوسع وأمتع ما أُلف في هذا الفن الشعري، وقد تميز المدخل بهوامش شرحت معانی المفردات العامية التي ماتت في الاستعمال المعاصر، ولو كان المؤلف شرح كل لفظ غريب صعب في الكتاب كله لكان ذلك أنفع ، لأن شرح الصعب والغريب سيحفظ للأجيال القادمة مادة قد يضيع معناها في الدارمي وغيره من التراث الشعبي.

ثانياً: ما سبب تسمية هذا النوع من الشعر بـ (الدارمي) ؟ استعرض المؤلف الأسماء التي أُطلقت على هذا النوع من الشعر فهي : (البستة، التوشيح، الركباني، السويحلي، شعر البنات ، غَزَل البنات، الغناء ، الموشح ، النثر، نظم البنات) ص78، وهو يرى أن هذه التسميات: (تكشفُ عن جهل أصحابها حتى في فهم معناها) ص79، ويضيف : (وتكشف عن استخفاف أصحابها...) ص83، إن صفة (الجهل) أَو (الاستخفاف) لأولئك الأَعلام لا تليق بأي منهم ، والكل يعلم المكانة العلمية التي تتمتع اسماء مثل: الكَرْملي ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وكاظم اسماعيل الگاطع ... الخ. فهؤلاء اعلام قد اجتهدوا، وقد يصيب المجتهد أو يخطئ ، وهو في الحالين مُثاب، وما على الباحث الناقد إِلا كشف الخطأ والخطل بلغة بعيدة عن الخشونة والتجريح ، وقد كان المؤلف دقيقاً في إشارته الى ان بعض التسميات السابقة هي (لون من ألوان الغناء)٧٩، الذي يؤدى بالدارمي أو بغيره من فنون الشعر، كالبستة والسويحلي والمحمداوي. شغلت تسمية الدارمي بهذا الاسم فصلاً ممتعاً في الكتاب، والمؤلف يرى أن أصل التسمية سومري (قد وصل الينا كما وصلت مفردات مثل (خَشِل وخبز و گوگَلّه ... الخ) ص122، ويضيف: (وما يعزز قولنا أننا لم نعثر على معنى لكلمة (دارمي) في القواميس العربية يعكس مفهومها عند العراقيين) ص122، ومن الطبيعي ألا يجد الباحث في المعجمات العربية ما يشير الى معنى الدارمي ، لأنه عامي عراقي ، وتلك معجمات تتناول الفصيح ، و نجد معنى (دارم) في القاموس المحيط ، ولسان العرب والمنجد والمعجم الوسيط (الدارم)، شجر تُحمر به النساء لِثاثها ، وهو ما نطلق عليه في العامية العراقية (الديرم) ، وقد تأتي (دارم) صفة للساق الممتلئة ، و (دَرِمَ) بمعنى قارب الخطوَ في عجلة، ومنه سُمي دارم بن مالك ... بن تميم، وكان اسمه (بحراً) ، إِذ جاء وهو يدرِم ، أي يمشي سريعاً(جاءكم يدارم) ، فسمي (دارم)، وشاع هذا الاسم بين الناس، ونحن أمام هذه المعاني المختلفة لــ (دارم) في المعجمات العربية يا ترى هل من علاقة بين احداها وبين شعر الدارمي؟ فهو اسم فاعل لحقته ياء النسب ، وكثير من الباحثين يرجحون أنه مأخوذ من (دارم) التي هي بطن من تميم، وأنا أميل الى هذا الرأي ، لأن نسبة الشعر الى قبيلة أمر معروف قديماً وحديثاً ، فالغزل العذري منسوب إلى قبيلة عُذرة ، وفي الأدب الشعبي يسمي بعضهم (الهوسة) (عگيلية) نسبة الى القبيلة المعروفة بهذا الاسم وهذا الرأي هو الشائع بين من قرأت لهم في فن (الدارمي)، أما الاستاذ العقابي فيذهب بعيداً، ويرى أن الدارمي كلمة سومرية وأنها مركبة من مقطعين ، فيذهب بعيداً، لأن اللغة السومرية (وصُفت بأنها لَصقية)، ولذا فأن (دارمي) مكونة من (دار) بمعنى (غَزْل) و (مي) بمعنى نساء، ويربط بين (غَزْل) و (غَزَل) بقوله: (معاجم اللغة العربية تُجمع على أن أصل الغَزَل من الغَزْل).

وينقل عن لسان العرب والقاموس المحيط : (غزلت المرأة القطن والصوف أدارتهما بالمغزل. وكما تدير المغازلةُ مغزلها لتغزل القطن ونحوه، كذلك يدير الشاعر مغزل فنه لأستمالة المرأة واستهوائها (٤٥ ص13)، وقد تصفحت (لسان العرب) طبعة دار صادر ، والقاموس المحيط ، فلم أجد هذا الربط بين (الغَزَل) و (الغَزْل) ، ولربما هو سمو من المؤلف الذي كان كل همه أن يربط بين (دار) السومرية ب (غَزْل) و (غَزَل) حتى يحصل على (غزَل البنات) ، وقد طاف من أجل ذلك في الانكليزية والعامية العراقية طوافاً ممتعاً ، وخلاصة ما أرى في أصل الدارمي أنه شعر عامي عربي عراقي ، وليس هنالك من فائدة أو ضرورة أو دليل قاطع على أنه سومري ، وكلنا يعلم أن السومريين ليسوا عرباً ، وان شعرهم ليس عربياً، وأن موسيقى الشعر السومري ووزنه قد ضاعا وذهبا بذهاب أهله، إِذ من المستحيل أن تحصل على صوت موسيقي أو وزن سومري ونستمع اليه من فم صاحبه نفسه إلا إذا استطعنا أن نحيي سومرياً ونستمع إليه مغنياً أو مُلقياً شعراً واذا  كان الدارمي عراقياً، فأن الشعوب الأخرى لها شعر يمتاز بالتكثيف والقصر مثل الهايكو الياباني ، و الدوبيت الفارسي ، ولا أظن شعباً من الشعوب يخلو أدبه من هذا اللون الموجز لغةً ، المدهش صورة.

ثالثاً: إِن نسبة النص الى امرأة أو رجل بالنظر الى معناه لا يعد دليلاً على جنس منتجه ، فقصائد (أَيظن) و (حبلى) لنزار قباني ، و (المجرشة) لعبود الكرخي كل منها جاءَت على لسان أمرأة ، وعالجت قضايا تخص المرأة، ولذلك فأن الاستفتاء الذي أجراه العقابي في نسبة الدارمي الى رجل أو امرأة لا يحسم هذه المسألة ، لأن الرجل قد يكتب نصاً نسائياً، فيحسب القارئ أو السامع أن النص لأمرأة.

رابعاً: متى نشأ الدارمي ؟ وأين؟ يقول الاستاذ ريسان الخزعلي : (يعود تاريخ نظم الدارمي الى بداية القرن التاسع عشر، كما تشير الى ذلك الكثير من المخطوطات) الهايكو السومري ص13 ، ويضيف: (ان الريف هو الأرضية التي أنبتت الجذور الأولى له) ، ويذكر الدكتور علي حداد في كتابه (جمر أخضر) نقلا عن عبد الرحمن البناء ص278: (إن أول من قالت شعر الدارمي امرأة تهجو رجلاً ضايقها ، بادعاء محبته لها، فقالت:

إِشْجاك ابطريجي تحوم وَلْ يَلمعذربْ

طبعك او وجهك شوم خالجهن الرب

أما الاستاذ هاشم العقابي فلم يتناول زمن نشوء الدارمي ، ربما لأن زمن ومكان نشوء الدارمي أشبه بالبديهة ، فمفردات لغته و صوره وقضاياها التي تناولها تؤيد أنه نشأ في القرن التاسع عشر او قبله بقليل في ارياف الجنوب.

خامساً: يقول العقابي: (لم نجد رأياً حول الدارمي، أَهزل من الذي يربطه ببحور الفراهيدي) ص48، ويدعو الى ترك التفعيلات لمعرفة وزنه باتباع المقاطع الصوتية، وأرى ان التفعيلات نفسها خاضعة للمقاطع الصوتية باعتمادها الساكن والمتحرك، وهي الطريقة التي اكتشفها الفراهيدي لمعرفة وزن أي شعر عربي في زمن الفراهيدي أو في زمن غيره أما اختلاف بعض الباحثين في نسبة الدارمي الى بحر من بحور الفراهيدي، فذلك اجتهاد يخص صاحبه ، ولا شك أن للدارمي وزنه الخاص المعروف ، وهو وزن عربي تقبلته الأذن العربية ، ومعرفته تعتمد على طريقة الفراهيدي في معرفة الوزن بتحديد الساكن والمتحرك.

ختاماً إِن ما أنجزه العقابي في كتابه هذا يستحق كل الثناء والتقدير، ومقالتي هذه لاتوفي الرجل حقّه إِلا بالرجوع الى الكتاب نفسه.

عرض مقالات: