بغداد اليوم - بغداد
يقف الشرق الأوسط في لحظة إعادة تشكيل جذرية: تراجع الانخراط الأمريكي المباشر مع بقاء النفوذ، صعود أدوار إقليمية أكثر استقلالية من اتفاقيات دفاعية إلى مسارات تطبيع، ضغوط قصوى على إيران، واستقرار سوري جديد يتجه لترتيبات أمنية مختلفة، فيما يتكثف الصراع حول فلسطين ولبنان. وفق مقاربات سياسية حديثة، هذا التحوّل لا يرحم الفاعلين الذين يتعاملون بمنطق الأمس؛ فغياب إدراك قواعد اللعبة الجديدة يُفضي غالباً إلى قرارات مكلفة. ومع تبنّي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطاباً داعماً لإسرائيل، ومعززاً لخياراتها العسكرية، تبدو البيئة الإقليمية أكثر ميلاً لإعادة تشكيلها وفق مصالح تل أبيب وواشنطن معاً.
المؤشرات القادمة من تل أبيب تُعامل العراق كحلقة في شبكة صراع أوسع، لا كهوامش بعيدة. هنا يضع الباحث في الشأن الاستراتيجي عباس الجبوري الإطار التحذيري بدقة حين يقول لـ"بغداد اليوم": "تهديد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالقضاء على الفصائل المسلحة في العراق لا يمكن اعتباره مجرد تصريح عابر، بل هو مؤشر على وجود نوايا تصعيدية في المنطقة، فإسرائيل، التي تخوض مواجهة مفتوحة مع فصائل المقاومة في غزة ولبنان، تسعى اليوم إلى توسيع دائرة المواجهة نحو العراق باعتباره حلقة مهمة في محور المقاومة". تُظهر تقديرات بحثية مستقلة أن إدراج العراق بهذا الوضوح في معادلة الردع الإسرائيلية يعني أن أي سوء تقدير من الفصائل سيُقرأ كذريعة لتوسيع المسرح.
ولمزيد من توصيف ميزان القوة، يضيف الجبوري وصفاً لطبيعة المخاطر: "هذا التهديد يعكس إدراك تل أبيب لتنامي نفوذ تلك الفصائل وقدرتها على تهديد أمنها، لا سيما مع تنامي القدرات الصاروخية والطائرات المسيرة التي قد تستخدم ضد أهداف إسرائيلية أو مصالح حليفة لها في المنطقة". تُظهر التجارب المقارنة أن القوة الخشنة بلا غطاء سياسي ودبلوماسي تتحول من أداة ردع إلى مبرر استهداف؛ بحسب قراءات قانونية، كلما غاب الإطار المؤسسي الجامع، ازدادت قابلية “قوة الأمر الواقع” لجرّ الدولة إلى مواجهة غير متكافئة.
السيادة كاختبار قانوني-سياسي
الإشكال لم يعد عسكرياً فقط، بل قانونياً وسيادياً. يوضح الجبوري: "هذا التهديد يعد خرق واضح لسيادة العراق وتحدي سافر للقانون الدولي، فمثل هذه التصريحات تستفز المشاعر الوطنية وتدفع باتجاه تعزيز خطاب الفصائل نفسها التي ترى في إسرائيل خصم مباشر، والأخطر من ذلك أن التهديد قد يفتح الباب أمام تصعيد إقليمي، إذ أن أي عملية عسكرية إسرائيلية داخل العراق ستعتبر عدوان على دولة ذات سيادة، وقد تدفع قوى إقليمية أخرى للدخول على خط المواجهة". تفيد تقديرات بحثية أن تثبيت السيادة لا يتحقق بالشعارات، بل بمرجعية قرار أمني موحّد داخل الدولة، يحدّد من يُمسك بالقوة وكيف تُستخدم وتحت أي شرعية.
ومن زاوية إدارة الداخل، يلفت الجبوري إلى طبيعة العقدة: "العراق من جانبه يقف اليوم أمام اختبار مزدوج: فمن جهة يجب أن يحافظ على سيادته ويرفض أي تدخل خارجي تحت ذرائع أمنية، ومن جهة أخرى عليه أن ينظم العلاقة مع الفصائل المسلحة بحيث لا تتحول أراضيه إلى ساحة لتصفية حسابات بين أطراف إقليمية ودولية، فاستقرار العراق مهدد إذا ما جرى استغلال وجود تلك الفصائل لتبرير عمليات إسرائيلية أو لتوريطه في صراعات تتجاوز حدوده".
يفسّر خبراء في الشأن المؤسسي هذه المعادلة بأنها “شرط دولة”: لا رفض للتدخل الخارجي دون ضبطٍ متماسكٍ لاستخدام السلاح في الداخل.
وفي خلاصته التحذيرية، يضع الجبوري إطار التحرك: "تهديد نتنياهو له أبعاد سياسية وأمنية خطيرة، فهو رسالة موجهة للفصائل، وضغط على الحكومة العراقية، وإشارة إلى المجتمع الدولي بأن إسرائيل مستعدة لتوسيع نطاق معاركها، وفي المقابل، يحتاج العراق إلى تحرك دبلوماسي عاجل عبر الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، وإلى موقف وطني موحد يوازن بين حماية السيادة ومنع الانجرار إلى صراع إقليمي مفتوح". تشير المداولات الدستورية إلى أن هذا “الموقف الوطني الموحد” لا يولد من فراغ، بل من عقد سياسي داخلي يحدّث قواعد الأمن والعلاقة بين السلاح والدولة.
مشروع “الشرق الأوسط الجديد”
التصعيد في سوريا، قبل فترة وجيزة، أعاد قاموس التقسيم إلى الواجهة. يصرّح عضو تحالف الإطار التنسيقي عصام شاكر لـ"بغداد اليوم": "ملامح تفكك الجغرافيا السورية بدأت تلوح في الأفق"، محذراً من أن الولايات المتحدة "تقف بشكل مباشر خلف الضربات التي استهدفت البنى التحتية ومناطق نفوذ الدولة السورية"، ومعتبراً إياها جزءاً من "تنفيذ مراحل مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي كان العراق أولى ضحاياه". وفق مقاربات سياسية حديثة، يستثمر هذا “المشروع” هشاشة الدول وانقسام مجتمعاتها لتفكيك المركز إلى كيانات فرعية.
وفي خلفيته التاريخية، يضيف شاكر: "مشروع الشرق الأوسط الجديد ليس وليد اللحظة، بل هو مخطط تم تبنيه منذ أكثر من نصف قرن في عواصم كبرى، تتقدمها واشنطن، وظهرت بعض خرائطه في الصحف والمجلات الدولية، قبل أن يبدأ التنفيذ الفعلي في الشرق الأوسط مطلع الألفية". تُظهر التجارب المقارنة أن الخرائط لا تفرض نفسها إلا حين تتصدّع البنى الداخلية وتغيب المرجعية الجامعة.
أما الكلفة العراقية المباشرة، فيفصّلها شاكر: "العراق كان أول من دفع ثمن هذا المشروع، حين أُطلقت آلاف المجاميع الإرهابية باتجاه الموصل في حزيران 2014، وأدت تلك الهجمة إلى سقوط مدن ومحافظات كاملة بيد الإرهاب، قبل أن تعيد فتوى المرجعية الدينية ودور رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي التوازن إلى المعركة، لتنتهي بتحرير كافة المناطق بعد سنوات من التضحيات الجسيمة". تشير بيانات رقابية إلى أن استدعاء “الهوامش المسلحة” لإسقاط المركز كان التكتيك الأبرز لإهلاك الدولة ثم إعادة تشكيلها.
وحول موجة التصعيد الراهنة، يختم شاكر بدلالة عراقية مباشرة: "ضرورة الانتباه جيداً إلى ملف أمن العراق في هذه المرحلة"، محذراً من "ارتدادات التوترات الإقليمية على الداخل العراقي" وداعياً إلى "توحيد جميع القوى السياسية والشعبية من أجل تحصين البلاد، وتعزيز الجبهة الداخلية، وإبعاد العراق عن أي تداعيات محتملة مرتبطة بتفكك الجغرافيا السورية أو أي تصعيد أوسع في المنطقة". بحسب قراءات قانونية، هذا “التحصين” يساوي عملياً اتفاقاً على قواعد اشتباك داخلية تُقفل أبواب الاستدراج الخارجي.
انتهاء “الحصانة” الإيرانية… وماذا عن العراق؟
أعلنت تل أبيب سياسةً عسكرية جديدة عقب الضربة الجوية المعروفة بـ"الأسد الصاعد" على إيران. وجاء في تفصيلها: الحفاظ على التفوق الجوي، منع التقدم النووي الإيراني، منع إنتاج الصواريخ، والرد على دعم إيران لأنشطة تصفها بالإرهابية. وبلهجة مباشرة قال وزير الدفاع: "أقترح أن يفهم رأس الثعبان بلا أسنان في طهران ويحذر: كانت عملية الأسد الصاعد مجرد مقطورة لسياسة إسرائيلية جديدة تقوم على انتهاء الحصانة التي كان يحظى بها بعد السابع من أكتوبر."
وفق مقاربات سياسية، حين تُعلن دولةٌ هذا المستوى من “رفع القيد” ضد خصم إقليمي، تتوسّع تلقائياً دوائر الاشتباه إلى ساحات الحلفاء. هنا تتبدى الحاجة إلى حسابٍ بارد: كيف تُفكّك بغداد أسباب الاشتباه دون أن تفكّك مواقفها المبدئية؟
هذا السؤال يُترجم داخل البرلمان بصيغة يقظة سياسية. يقول النائب جواد اليساري لـ"بغداد اليوم": "كل المعطيات تشير إلى أن العراق لن يكون بعيدًا عن مخططات إسرائيل تجاه المنطقة، خصوصًا بعد التصريحات الأخيرة التي كشف عنها وزير الدفاع الإسرائيلي"، مضيفاً أن "العراق يجب أن يتعامل مع هذه المرحلة بحذر، من خلال تقوية الجبهة الداخلية سياسيًا وشعبيًا".
ويُكمل محدداً سبب الأهمية: "إسرائيل تسعى لتغيير خارطة الشرق الأوسط، والعراق جزء مهم من هذه الخارطة، خاصة وهو رافض للتطبيع، ولديه قانون يجرّم أي علاقات مع هذا الكيان الغاصب"، ثم يضع حدود التأثير المباشر وغير المباشر: "العراق قد يكون ضمن نطاق التأثير السياسي أو الأمني غير المباشر إذا استمر التوتر الإقليمي بالتصاعد". تقديرات بحثية مستقلة ترى في هذا الخطاب ثلاث ركائز: تثبيت قانون المقاطعة، تحشيد داخلي منضبط، وتبريد نقاط الاحتكاك التي تُستغل ذريعة.
السؤال المركزي: متى تُدرك الفصائل… كي لا يتكرر الخطأ؟
جوهر التقرير يتلخص في هذا السؤال: هل تُدرك الفصائل أن كُلف سوء القراءة اليوم أعلى بما لا يُقاس من الأمس؟ فإسرائيل تنقل رسائل ردع متحرك وتشمل العراق بوضوح في جغرافيا الاشتباه، وإيران تحت ضغط مركّب يحدّ من قدرتها على تغطية حلفائها وتوفير المظلّة الاستراتيجية التي طالما استندت إليها، وسوريا غيّرت موقعها في خريطة الاصطفاف متجهة إلى شراكة أمنية مع واشنطن فيما فقد لبنان ركيزته الرمزية بعد غياب حسن نصر الله. يضاف إلى ذلك أن مشروع التفكيك الإقليمي يجد ضالته أولاً في هشاشة العقد الداخلي قبل أي عامل خارجي، وأن مفهوم السيادة لا يمكن أن يقوم إلا على توحيد قرار استخدام القوة تحت مرجعية الدولة لا عبر خطاب يحاول أن يحلّ محلها. تُظهر التجارب المقارنة أن الأنظمة والحركات التي أنكرت لحظة التحول الاستراتيجي دفعت أثماناً باهظة. اليوم يقف العراق بين طريقين:
الأول، أن تُعيد الفصائل تعريف دورها ضمن مظلة الدولة، بقرار أمني موحّد، وبتحرك دبلوماسي نشط كما لخّص الجبوري، مع تحصين داخلي كما دعا شاكر واليساري؛ فتُغلق أبواب الاستدراج وتُثبت السيادة بالقانون لا بالشعار.
الثاني، أن يظل الإنكار سيد الموقف، فتتكرر أخطاء “عدم الإدراك” وتُفتح أبواب صراعات وحصار لا يتحملها بلدٌ أنهكته الحروب.
ويخلص خبراء في الشأن الاستراتيجي إلى أن "الاختبار الآن -ليس غداً- هو إدراك المعادلة والعمل بمقتضاها: قوة تحت دولة، سياسة تُدير السلاح ولا تُدار به، وسيادة تُترجم إلى مؤسسات لا إلى جبهات متوازية. بهذه فقط، يتجنب العراق إعادة كتابة كلفة أخطائه القديمة على صفحة جديدة أشدّ قسوة."