اخر الاخبار

لم تكفّ الحركات الاجتماعية العالمية عن تقديم دروس غنية في التضامن والدفاع عن السلام، وعن اتخاذ مواقف حازمة ضد الحرب والجبروت والتسلط. وتنوّعت أشكال هذا التعبير: مظاهرات، إضرابات، وقفات طلابية، بيانات نقابية، وكلها جسّدت حرص الشعوب على حقها في السلام والأمان وتقرير المصير. ومنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة، واظبت هذه الحركات على تنظيم التظاهرات استنكارا للجرائم المرتكبة بحق المدنيين، وتضامنا مع الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل إقامة دولته المستقلة.

في إيطاليا تجلّى هذا الحراك بنحو مؤثر. فبدعوة من النقابات العمالية، شهدت البلاد يوم 22 أيلول الجاري إضراباً عاماً، شلّ حركة النقل العام وأغلق الموانئ في جنوه وليفورنو، فيما عمّت المظاهرات 75 مدينة من روما إلى ميلانو ونابولي وغيرها وغيرها. وفي قلب العاصمة احتشد مئات الطلبة أمام محطة تيرميني، ملوّحين بالأعلام الفلسطينية ومرددين هتاف "فلسطين حرة". لم يكن ذلك مجرد رد فعل عاطفي على صور الوحشية الصهيونية في غزة، بل وإعلاناً عن أن الضمير الأوروبي الشعبي بدأ يتجاوز تردد الحكومات، وأن النقابات والطلاب باتوا شركاء فعليين في معركة العدالة.

هذا المشهد الإيطالي لم يكن استثناءً، بل امتداداً لموجة واسعة تجتاح أوروبا والعالم. ففي باريس وبرلين ومدريد ولندن وستوكهولم تتواصل المظاهرات، وفي الجامعات ترتفع أصوات الطلبة ضد الحرب. فلسطين لم تعد قضية بعيدة، بل غدت مرآة تكشف صدقية القيم التي تتغنى بها الديمقراطيات الغربية. والاعترافات المتتالية بدولة فلسطين، من بريطانيا إلى كندا وأستراليا وصولاً إلى فرنسا، لم تكن لتحدث لولا ضغط الشارع الشعبي المتواصل. هذه الاعترافات لم تكن هبة من الحكومات، بل جاءت استجابةً لضغوط القوى الشعبية التي فرضت عليها الإصغاء لإرادة شعوبها، وعدم البقاء بمنأى عن الحراك الاجتماعي العالمي.

الأهم أن هذا التضامن لم يعد مجرد تعاطف أخلاقي، بل تحول إلى أداة فعلية في مواجهة ثقافة الحرب. الجيل الجديد، الذي نشأ وسط إعلام يغذي العنف ويقدّم الحرب كفرجة يومية في السينما وألعاب الفيديو، بدأ يكتشف أن إنسانيته على المحك. حين يرفع علم فلسطين، فإنه لا يتضامن مع شعب بعيد فحسب، بل يدافع عن حقه في العيش في عالم لا تحكمه القوة الغاشمة. لذلك صار التضامن ممارسة يومية: إضراب في مدرسة، وقفة في ساحة، مقاطعة في متجر، أو إغلاق لميناء.

من غزة المحاصرة إلى شوارع روما، يتشكل خيط مقاومة واحد. هناك يقاوم الناس بالدم والأنقاض، وهنا يقاومون برفع الصوت. كلاهما فعل سياسي يفتح أفقاً جديداً للسلام، وهو سلام لا يُملى من فوق ولا تصوغه موائد التفاوض، بل ينبت من الأسفل، من وجدان الناس وضميرهم الحي.

فلسطين اليوم لا تدافع عن نفسها فقط، بل تهب العالم درساً غير مسبوق: أن التضامن حين يتجسد بالفعل، يصبح قوة قادرة على تغيير موازين السياسة. إنها تنقل القضية من ملف إقليمي محاصر إلى معيار عالمي لصدقية العدالة، وتمنح السلام معنى لا ينفصل عن الحرية ولا يقوم إلا بها.