في أواخر خمسينات وأوائل ستينات القرن الماضي بدأت حكومة الجمهورية الفتية باستقطاع مساحات في بغداد والمحافظات لتخصيصها كقطع أرضٍ سكنية للفقراء وسكّان الصرائف وذوي الدخل المحدود، بعضها وُزِّعَ كقطع أراضٍ ليتمّ بناؤها من قبل المستفيدين منها مثل مدينة الثورة (الصدر) والشعلة وغيرها، وبعضها الآخر تم بناؤه على شكل مجمّعات سكنية وُزِّعت لذوي الدخل المحدود،
فالمعقل والأبلّة ودور الموانئ في أم قصر والفاو وكذلك دور النفط وغيرها تمّ بناؤها وتوزيعها على ذوي الدخل المحدود من العمال والموظفين، كما تم تخصيص جزء من واردات مصلحة الموانئ آنذاك كي تقوم ببناء مساكن ومستشفيات ومدارس وحدائق ومتنزهات للمواطنين، فازدهرت البصرة بمناطق الأبلّة وخمسين حوش وحي الشهداء وازدانت بحديقة الأندلس وشفقة العامل ومدينة الألعاب ونمرة أربعة، كنتَ تشمّ رائحة الشاموا وملكة الليل وأنت تمشي في شوارعها وبين بيوتاتها ليلاً وصباحاً، كما أخذت التجارة والزراعة والصناعة وأعمال العمران والبناء تتزايد يوماً بعد آخر، فمناطق الجبيلة في البصرة وحي عدن وحديقة الأمّة والجبيلة في الفاو أيضا، إضافة الى الحفلات والسفرات الترفيهية للمواطنين في الزوارق البخارية وعبر شط العرب والتي صارت أيقونة فرحٍ في كل مناسبة تمرّ على البلاد !!
حينذاك تنفس الفقراء وذوو الدخل المحدود الصعداء وبدأت الحركة العمرانية بالنمو وانتعشت التجارة والصناعة والزراعة والسياحة !
إلاّ إن الأمور بدأت بالتدهور والخراب شيئاً فشيئاً منذ أواخر السبعينات وليوم الناس هذا، حيث الحروب التي لا معنى لها والموت المجّاني والفساد والخراب الذي تغلغل في النفوس والضمائر لتزداد نسبة الفقراء والنازحين واليتامى والثكالى، وتنتشر المجمّعات السكنية العشوائية والتجاوزات ومخيّمات النازحين هنا وهناك وتُثقل الإيجارات كاهل الغالبية منهم !
منذ عقدين من السنوات وأكثر، نسمع بين وقتٍ وآخر عن مشاريع سكنية عملاقة لبناء مدن بطريقة الاستثمار، وستبيعها الشركة المستثمرة بالأقساط، وشُيدت العديد منها وأخذنا نقرأ ونسمع إعلانات بيعها، لكن بأيّة أقساط ؟! إنها ستبيع بالسعر الذي تربح منه، وهذا ما يؤكد إن الفقراء وذوي الدخل المحدود من العمّال والموظّفين لن يتمكّنوا من شراء غرفة واحدة نظراً لارتفاع سعرها طبعا، لذا ستبقى مشاكل العشوائيات والإيجارات قائمة !
في كل دول العالم يتم بناء مجمّعات سكنية حسب المواصفات لتوزّع على المواطنين بالتقسيط المريح أو بالمجّان، ما يدعو المواطن الى عدم التفكير بأزمة السكن وما شابه ذلك، ليلتفت الى العمل والبناء لخدمة الوطن وازدهاره!
كما إن العمّال والموظّفين وشرائح المجتمع الأخرى لهم الحقّ في امتلاك قطعة أرضٍ، إن لم تكن داراً مبنية تُمنح لهم من قبل الحكومة لتأمين سكن عوائلهم!
فإذا أردنا أن نبني وطناً حراً ومزدهراً وناجحاً في صناعته وزراعته وتجارته وسياحته يجب علينا أن نؤمّن حقوق كل مواطنيه من سكنٍ وعملٍ وعيشٍ رغيد، لا أن نترك المواطن بين مطرقة الفقر وسندان أزمة السكن تطحنه المشاكل وتأكل عمره الحسرات، ونفتح نوافذ لبناء مدن استثمارية عملاقة لن يستطيع أن يشتري بيوتها إلاّ الميسورين وأصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال والفاسدين سارقي قوت الناس!
لنفكّر قليلاً بالمواطن ونفتح استثماراً حقيقياً مدعوماً من قبل الدولة - اذا كان المسؤول يعتبرها طبعا ويسعى لبنائها من جميع الجوانب ؟ - وبناء مساكن واطئة الكلفة كي يستطيع الفقراء شراءها بالتقسيط وننهي أزمة السكن ما لها وما عليها!